سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

بغداد التي تنتفض على طهران... ومعها بيروت!

أرسل المواطن العراقي عبد الرزاق الهاشمي يسألني: أين الدعم العربي الواجب لهذه الانتفاضة التي تملأ الأرجاء في العراق مرة، وفي لبنان مرة أخرى؟!
والدعم المقصود بطبيعة الحال، هو الدعم السياسي، والمعنوي، والوجداني، لا الدعم المادي بمعناه المباشر، فالانتفاضة الشجاعة في البلدين ليست في حاجة إلى دعم مادي، ولكنها في حاجة إلى دعم تجد فيه العون الذي يتبنى مطالبها، ويراها مطالب مشروعة، ثم يرى أن مشروعيتها كاملة الأركان لا ينقصها شيء!
وأحسست من سؤال الرجل أننا كلنا مقصرون في حق كل شاب عربي، خرج متظاهراً في بغداد وفي بيروت ولا يزال يخرج. وحين أصف كل شاب من هؤلاء الشبان في العاصمتين العربيتين بأنه عربي وحسب، ولا أقول إنه عراقي في حالة العراق، أو لبناني في حالة لبنان، فإنني أقصدها تماماً وأقولها عن عمد. أقولها قاصداً لأن كل عربي تجري في شرايينه الدماء العربية يظل مديناً لهؤلاء الشبان، ويبقى مدعواً إلى أن يُظهر لهم كل مساندة ممكنة، ثم إلى أن يبذل لهم كل مساعدة يجدها مُتاحة في حدود طاقته وفي إمكانه!
أقولها هكذا؛ لأنه من الجائز أن يكون الشباب العراقي الثائر، قد خرج رفضاً لفساد استشرى في بلاده حتى أكل كل خيراتها تقريباً، ومن المحتمل أن يكون قد ثار اعتراضاً على أن يكون الأداء السياسي العام في بلده على هذا القدر من الهبوط والتراجع، وقد يكون هذا الشاب العراقي الثائر نفسه، قد رفع صوته في كل ميدان، وفي كل شارع، وعلى كل ناصية؛ لأنه لا يتصور أن يكون العراق بكل هذا الثراء في موارده الطبيعية، ثم تكون حياة الغالبية من أبنائه بكل هذه المساحة من البؤس والتعاسة!
قد يكون الشباب العراقي قد انتفض لهذه الأسباب كلها، وهو قد انتفض لها بالفعل؛ لأنه لا مجال للتشكيك في مدى ضغوطها الحياتية عليه، في منامه وفي يقظته على السواء، ولكن هذا لا ينفي أن سبباً آخر يظل موجوداً هناك إلى جوار هذه الأسباب جميعاً. وهو سبب قد يكون وجوده في الخلفية، تارة، بحكم طبيعته التي تميزه عن سائر الأسباب، وقد يعود وجوده فيتجلى واضحاً في الواجهة أو بارزاً في الصدارة، تارة أخرى، وبحكم طبيعته أيضاً. ولكنه موجود في كل الأحوال، وهو ليس موجوداً وفقط، ولكنه محرك قوي للشباب، ودافع أقوى له نحو الغضب، بقدر ما هو كامن في أعماق كل شاب، ومستقر في وجدانه، حتى وإن كان في استقراره، وفي كمونه، يتخفى بعيداً عن العيون في بعض الأحيان!
هذا السبب هو عروبة العراق، وهو عربية العراقي، وهو رغبة كل مواطن شارك مع رفاقه منتفضاً ولا يزال، في أن يدفع هذا التغول الإيراني على عروبة بلده وعربيته، وفي أن يصد هذه السطوة التي تريدها الدولة الإيرانية على صناعة القرار في بلده!
فأين الدعم العربي السياسي بالذات، الذي يجب ألا يتأخر في إسعاف مثل هذا التوجه لدى كل منتفض عراقي، وبالضرورة لدى كل منتفض لبناني من وراء العراقي؟! قد تكون قضايا الفساد، وقضايا سوء إدارة موارد البلد، وقضايا سوء توزيع ثروته، من بين مسائل الشأن الداخلي، الذي هو بطبيعته شأن محلي بين كل مواطن عربي وبين حكومته، ولكن عندما يكون الهم العربي حاضراً في القلب من هذه الانتفاضة، التي تكاد تعم كل المدن في بلاد الرافدين، وتكاد تغطي بلاد الأرز في لبنان، فالبحث عن الدعم العربي القادم من كل عاصمة تتكلم لغة الضاد، لا بد من أن يكون محل سؤال، ولا بد من أن يكون موضع بحث، واستقصاء، وانتظار!
إن البصرة العراقية التي خرجت مرات ومرات تشكو سوء الحال، كانت في جانب من جوانب ثورتها تفتش عن تيار الكهرباء الذي لا يكف عن الانقطاع، وكانت تتألم من الماء الملوث الذي يصيبها بالمرض، وكانت لا تتوقف عن إعلان دهشتها من أن يكون العراق بلداً يعوم على البترول، ويجري فيه نهران كبيران من شماله إلى جنوبه، وتملأ أركانه الأراضي الخضراء، ثم يبيت أبناؤه بلا كهرباء، وبلا ماء، وبلا عمل، وبلا حتى أمل في يكون الغد القريب أفضل من هذا الحاضر البائس التعيس!
كانت البصرة تعبر عن كل هذه المعاني في ثورتها، ولكنها على الجانب الآخر كانت تريد أن تقول وبأعلى صوت إنها مدينة عربية، مهما قيل عن أن الأغلبية فيها شيعية المذهب. إنني آسف أن أتحدث هنا عن مواطن شيعي، وعن مواطن آخر سني في المقابل، في العراق أو في غير العراق، فهذه نبرة في الكلام العام لا أحبها، ولا أقبلها، ولا أشجع عليها، وهي نبرة لا بد من أن نهجرها، كما أن الحديث بها لا بد من أن يختفي من بيننا، وأن نتوقف عن ترديده، وألا نسمح بترويجه، لا لشيء، إلا لأن ترويجه هو بالضبط ما يريده الإيرانيون، ولأن السماح به هو على وجه التحديد ما تسعى حكومة المرشد علي خامنئي إلى تمريره، ولأن إظهاره في الأجواء العامة هو تماماً ما تسعى حكومة الملالي إلى تكريسه واعتماده في التداول بين الناس!
البصرة تعلن أنها عربية وتتمسك بعربيتها، حتى ولو كانت شكواها من تردي الخدمات العامة هي التي تطغى على ما عداها من الشكاوى، وهي التي ترفعها اللافتات عالياً في الميادين. بالضبط كما هو الحال في كل مدينة من مدن الجنوب اللبناني، التي خرجت ترفض العباءة الإيرانية، وتتمرد عليها، وتفاجئ «حزب الله» قبل أن تفاجئ سواه من الأحزاب الفاعلة في لبنان!
عباءة المرشد ليست هي العباءة التي تجد فيها البصرة ما يتواءم مع مزاجها، ولا هي التي تجد فيها بيروت ما يتماشى مع ما تحبه ويتصادف مع هواها، ولا هي التي ترتاح بغداد إذا مشت بها بين بقية المدن، فهي عباءة خُلقت للمزاج الإيراني لا العربي، والذين يريدون في طهران فرضها زياً على المواطن في لبنان أو في العراق، لا يلتفتون إلى أنها ليست على مقاسه، ولا هي تتسق مع ملامحه العربية، ولا هي تتلاءم مع معالمه التي توارثها عن امرئ القيس، والمتنبي، وأمير الشعراء شوقي، حتى ولو بدت عباءة فضفاضة تنساب على صاحبها فتشمله وتحيط به من كل زاوية فيه!
بغداد قادرة على تمزيق عباءة المرشد وحدها، ولكنها في حاجة إلى الإحساس بأن قلب كل عربي معها، إذا فاته أن يكون معها بلسانه وجوارحه، وبيروت كفيلة باسترداد عربيتها، والدفاع عنها، ورفع رايتها، ولكنها تنتظر أن تشعر بأن العرب يقفون إلى جوارها وهي تحطم قيودها!
بغداد تتحدث لغة عبد الوهاب البياتي، والسياب، ونازك الملائكة، ولا تعرف اللغة التي يرطن بها قاسم سليماني، وبيروت تقرأ في كتاب جبران خليل جبران، ولكنها تتوجس شراً من كتاب الشاهنامه!