علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

سليمان الخراشي وصخرة الخلاص

يقول سليمان الخراشي في مقدمة كتابه (عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى!): «لكن اللافت في تجربة القصيمي عند من احتفى به أنه ذو سابقة علمية سلفية، دفاعية عن الإسلام الصحيح، أمام المناوئين والمبتدعين، وهذا ما أعطى تجربته فرادة وأثارة واستغراباً، وبعضهم قد اتخذ منها مغمزاً في أهل السنة ومنهجهم، وفات هؤلاء أخبار المرتدين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فهل هذا يقدح في الصحابة - رضي الله عنهم - وفي منهجهم؟!».
القصيمي عند الخراشي وعند المشايخ السلفيين الذين جمع ردودهم في كتابه (عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى!) على كتاب القصيمي (هذي هي الأغلال) الصادر في عام 1946، هو ملحدٌ ومرتدٌ في هذا الكتاب. وهذا حكم غير صحيح. فإلحاده وردَّته كانت في الكتب التي ألّفها في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي. وفي هذه المرحلة الإلحادية والارتدادية وفي تلك المرحلة التي كان القصيمي فيها في كتابه (هذه هي الأغلال) تجديدياً وثورياً في فكره الديني الإسلامي، لا يوجد أناس أو حتى شخص واحد اتخذ من تجربته مغمزاً في أهل السنة ومنهجهم.
في صفحات وضعها سليمان الخراشي في كتابه تحت عنوان (سبب إلحاده) نقل لنا فيها ما عرضه عايض بن سعد الدوسري من تفسيرات أربعة لإلحاد القصيمي، رجّح هو التفسير الثاني منها، وقد ذكر أن ما قاله عايض بن سعد الدوسري مأخوذ من مقال له على شبكة الإنترنت، نشر في موقع (صيد الفوائد) السلفي.
بحثت عن هذا المقال ووجدت أن عنوانه (قصة إلحاد وحكاية ملحد) ووجدت أنه متوفر في مواقع سلفية عدة. وأن صاحبه عايض بن سعد الدوسري لم يضع على هذا المقال ولا مقالات أخرى له اسمَه، وإنما كان يستعير تعبيراً دينياً مسيحياً أساسياً ليكون هو اسمه المستعار. هذا الاسم المستعار هو صخرة الخلاص!
يقول صخرة الخلاص في هذا المقال: «كما تحدث عن القصيمي الشيخ زاهد الكوثري واتخذه باباً لمهاجمة السلفية، كما فعل ذلك الشيخ محمد جواد مغنية».
الآن اتضح لنا من هم البعض الذين قال عنهم سليمان الخراشي إنهم اتخذوا من تجربة القصيمي مغمزاً في أهل السنة ومنهجهم، واتضح لنا أنه قد حوّر اصطلاح أهل السلفية ومنهجهم إلى اصطلاح أهل السنة ومنهجهم. فالشيخ الكوثري هو من أهل السنة وليس كالشيخ محمد جواد مغنية من أهل الشيعة؛ كي يصح استعمال ذلك الاصطلاح.
ما قاله صخرة الخلاص، وكان يتحدث عن القصيمي في مرحلة كتابه (هذي هي الأغلال) لا أصل له. فالشيخ محمد زاهد الكوثري المعادي للسلفية والوهابية لم يعلق بشيء على هذا الكتاب. والجدل الذي خاضه مع عبد الله القصيمي يرجع إلى الفترة التي كان الأخير فيها سلفياً وهابياً محضاً. والشيخ اللبناني الشيعي محمد جواد مغنية لم يكتب أي شيء عن ذلك الكتاب وإنما كتب عن كتابه (العالم ليس عقلاً) الصادر في بيروت عام 1963، مقالاً نقدياً قصيراً عام 1964 في مجلة (الآداب) في باب من أبوابها مخصص للتعريف بالكتب الجديدة ونقدها. ورد القصيمي على نقده لكتابه بمقال عنوانه (حول نقد الأستاذ مغنية). ورد الشيخ مغنية على هذا الرد بمقال عنوانه (حول جواب الأستاذ القصيمي). ولا يوجد في مقاليه تعريض بالقصيمي بأنه كان سلفياً وهابياً ثم أصبح زنديقاً وملحداً، رغم سخطه وسخط كل شيعي على كتاب القصيمي (الصراع بين الإسلام والوثنية) الصادر في جزأين عام 1937، الذي رد به على كتاب السيد محسن الأمين (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب) الصادر عام 1927، رغم أنه في ذلك العام الذي نشر فيه مقاليه عن كتاب القصيمي (العالم ليس عقلاً) كان قد أخرج كتاباً تحامل فيه على الوهابية وعلى السعودية؛ هذا الكتاب هو كتاب (هذه هي الوهابية).
إن ما قاله صخرة الخلاص نجده في هذا العته من هذا الكلام الذي قاله شيخ مغربي كان هو وإخوته، الذين هم أقرب ما يكونون إلى أهل الحديث والذين كانوا يناوئون السلفية الوهابية؛ هذا الشيخ هو عبد الحي بن الصدّيق الغماري. يقول هذا الشيخ - وهو يتحدث عن الوهابية -: «وقد انتهى الحال برجل اسمه عبد الله القصيمي من أهل الحجاز(!)، كان داعية هذه الطائفة الخبيثة(!) بمصر إلى الكفر وإعلان إلحاده(!) في كتاب سماه (هذه الأغلال) جزاءً وفاقاً على تكفيره(!) المؤمنين والموحدين، وقد كان للعلامة المطلع السيد محمد زاهد الكوثري، والعلامة السيد يوسف الدجوي رحمهما الله تعالى، وشقيقي السيد عبد الله مع هؤلاء الأنذال(!) صولات موفقة».
بصرف النظر عن تدليس صخرة الخلاص في المعلومة التي ذكرها، فإنه - على الأقل - استعمل الاصطلاح الفرعي الصحيح، وهو السلفية، ولم يستعمل - كما فعل الخراشي - اصطلاحاً واسعاً، كأهل السنة في غير موضعه الدقيق.
الخراشي فعل هذا، لأنه يعتقد - وبالرجوع إلى النص الذي اقتبسناه منه أعلاه - أن السلفية وحدها هي (الإسلام الصحيح) وأن السلفيين هم (أهل السنة) وهم الذين يمثلون (منهجهم) حصراً!
إلباس آخر ليس بخطورة الإلباس الأول يوقعنا الخراشي به، ففي تعريفه بكتب القصيمي في مرحلته الدينية السلفية، يسمي هذه الكتب الكتب الإسلامية، مع أن هذه التسمية لا تنطبق على العديد منها تماماً. والتسمية التي تنطبق عليها تماماً هي أنها كتب سلفية وهابية. إذ لا يدخل منها في خانة الكتاب الإسلامي المعاصر سوى ثلاثة كتب هي: (مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها) و(ونقد كتاب حياة محمد) و(كيف ذلّ المسلمون).
اللافت أن الكتاب الثالث أسقطه الخراشي من قائمة كتب القصيمي الدينية التي عرَّف بها، فهو لم يعرّف به! ولا تفسير لذلك سوى أن القصيمي قد كتبه بروح الكاتب الديني النقدي المتحرر. وأن الكتاب قد تمخض عنه بعد ست سنوات كتابه الأكثر نقدية والأكثر تحرراً: (هذي هي الأغلال).
كان من ضمن المصادر التي استقى الخراشي منها ترجمة القصيمي، كما ذكر هو كتاب يورغن فازّلا (من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق عبد الله القصيمي). وفي المعلومات التي نقلها الخراشي من فازلا عن هدف القصيمي من تأليفه كتاب (الثورة الوهابية) عام 1936، وإشارة الأخير إلى أن هذا الكتاب ألّفه في ظل مناخ سياسي إيجابي جديد في علاقة مصر بالسعودية، كان أميناً في نقلها منه. لكنه عندما وصل إلى عام 1937 في حياة القصيمي، وهو العام الذي أخرج فيه كتابه الذي رد فيه على كتاب السيد محسن الأمين، أخل بالأمانة في النقل؛ لتعصبه المذهبي.
يقول الخراشي: «وكان امتدادا آخر للدفاع عن الحركة السلفية في نجد، رد القصيمي على كتاب الرافضي محسن الأمين العاملي المعنون بـ(كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب)، وجاء رد القصيمي صاعقاً معززاً مكانته كمجادل ومحاور من الطراز الرفيع».
الأصل الذي نقل الخراشي منه، يقول ما يلي: «بينما أدى كتاب (الثورة الوهابية) إلى تعزيز اسم القصيمي كداعية للمصالح السعودية في مصر يعتمد عليه، أدى كتابه التالي إلى تعزيز سمعته كمجادل صدامي من طراز رفيع».
فازلا يصف القصيمي بأنه في كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) كان مجادلاً (صدامياً) من طراز رفيع، والخراشي يحور هذا الوصف إلى مجادل و(محاور) من الطراز الرفيع!
وكما نعلم، هناك فرق شاسع بين الجدل الصدامي والجدل الحواري.
فالجدل الأول جدل نسفي وهدمي. والجدل الثاني جدل بنّاء ومثمر يتغيا اللقاء والالتقاء والتفاهم بواسطة إبراز القواسم المشتركة والتركيز عليها وإضعاف أسباب الخلاف وموجبات الخصومة وتهميشها.
إن فازلا كان محقاً ودقيقاً في وصفه للقصيمي في ذلك الكتاب وتحديد نوع جدله فيه. كما كان محقاً ودقيقاً في وصف كتاب السيد محسن الأمين بأنه كتاب خصامي. فالقصيمي كان في كتابه مجادلاً صدامياً يهدف إلى نسف العقيدة الشيعية وهدمها. وموقفه هذا كان ردة فعل عنيفة لمحاولة السيد محسن الأمين نسف الدعوة الوهابية وهدمها.
إخلال الخراشي بالأمانة في النقل من فازلا سببه - كما قلت - تعصبه المذهبي. والشاهد على ذلك نعته السيد محسن الأمين بالرافضي. وأخشى أن يكون هذا النعت القدحي عنده ضربا من الحوار والمحاورة والمجادلة الحوارية!
بعد هذا النقل غير الأمين ينقل عن عبد الله عبد الجبار - وهو أحد رواد الأدب في السعودية الذين تعرفوا إلى القصيمي في أثناء عمل الأول بالقاهرة، قوله في كتابه (التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية): «إن أحد علماء نجد قال إن القصيمي دفع مهر الجنة، ولن يضره ما يعمل بعد ذلك، ولا نجد رأساً يطاول رأسه إلا رأس ابن تيمية».
يضع الخراشي هامشاً لنقله هذا، يقول فيه: «وقال مثله القصيمي في إحدى رسائله لصاحبه قدري قلعجي (انظر الرسائل المتفجرة لجهاد قلعجي، ص33). ولا أظن عالماً يقول هذا الكلام؛ لما فيه من التألي والجرأة على الله - عز وجل - والمبالغة في مدح كتاب القصيمي (الصراع...)، وما هو إلا اختصار لكتاب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - (منهاج السنة) - كما سيأتي إن شاء الله».
انظروا كيف انقلب إطراؤه رد القصيمي على الأمين بأنه «جاء صاعقاً معززاً مكانته كمجادل ومحاور من الطراز الرفيع» إلى ثلب فيه، وهو أنه مجرد اختصار لكتاب ابن تيمية (منهاج السنة)!
سبب انقلابه المفاجئ في سطور قليلة من حكم تثميني على رد القصيمي على الأمين إلى حكم تبخيسي عليه، هو نسبة تلك المقولة إلى أحد علماء نجد، ووضع القصيمي في مصاف ابن تيمية. فكيف يوضع في مصافه وقد ألّف بعد كتاب (الصراع بين الإسلام والوثنية) كتاب (هذه هي الأغلال)... وللحديث بقية.