جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

مأساة الضحايا وفتنة الخشخاش

أينما وليتَ وجهك، الأيام الماضية، سواء في شوارع العاصمة لندن، أو في غيرها من المدن البريطانية، أو على شاشات القنوات التلفزيونية، تقابلك زهرة خشخاش، اصطناعية، بحمرة لون الدم، معلّقة في ياقات سترات الرجال، وعلى صدور فساتين النسوة، تذكيراً بالملايين الذين سقطوا في ميادين القتال ضحايا لحربين عالميتين مهلكتين، ولغيرهما من الحروب، وأيضاً لجمع تبرعات للجنود المتقاعدين. وتحتفل بريطانيا سنوياً بـ«يوم الذكرى»، في لندن، بحضور الملكة وأعضاء الأسرة المالكة، ورؤساء الحكومات السابقين والنواب، ومئات من قدماء المحاربين، وقادة القوات المسلحة، وغيرهم، لوضع أكاليل مستديرة صُنِعت من زهرة خشخاش حمراء اللون على قبر الجندي المجهول.
أذكر أنني كنتُ، في سنوات إقامتي الأولى، حريصاً على متابعة النقل المباشر للذكرى، إلا أن حرصي على المتابعة تراخى بمرور الوقت حتى ضمر... لكن حُمرة زهرة «مقابر الفلاندرز»، وعلاقتها بالدم، وبالموت، ظلَّت تشد اهتمامي وتثير أسئلتي، في محاولة لفهم معنى ربط مأساة الضحايا الموتى بجمال وفتنة الزهرة، وحمرتها القانية.
هذا التقليد السنوي البريطاني وارتباطه بزهرة الخشخاش، حسبما قرأتُ، ليس بريطانيّ الأصل والمنشأ، بل أميركي. ابتدعته أستاذة بجامعة جورج تاون اسمها موينا مايكل، مقترحةً تعليق الزهرة على الصدر تذكيراً بمن قُتلوا في الحرب. وكانت مدفوعة في ذلك بتأثير قصيدة شعرية عنوانها «في حقول الفلاندرز» كتبها ضابط - طبيب، وشاعر - كندي، اسمه جون ماكري، كان يقاتل ضمن صفوف الفرقة الكندية في منطقة الفلاندرز - بلجيكا، وشارك في معركة - Ypres الثانية في «الفلاندرز»، وهي المعركة التي استخدم فيها الألمان، للمرة الأولى، غاز الكلورين السام.
لدى حضوره تشييع جثمان أحد رفاقه الضباط، لاحظ ماكري سرعة نمو زهر الخشخاش بين قبور الجنود الموتى في المقبرة. ولدى عودته إلى مقر وحدته، انجذب حزيناً للحظة شعرية، فكتب بخط يده مسوَّدة أولى، لقصيدة تتناول الحرب والسلام. ويبدو أنه عقب الانتهاء من كتابتها، لم تَرُق له، فكوّم الورقة ورماها. لكن رفاقه تمكنوا من العثور على الورقة المرمية، وقرأوا القصيدة، فنالت أعجابهم، وبدأوا في نسخها وتبادلها فيما بينهم.
وفي بداية عام 1919 قامت سيدة فرنسية الأصل اسمها آنا جورين ببيع زهر خشخاش اصطناعي، للمرة الأولى، في أميركا لجمع تبرعات للأطفال اليتامى في المناطق الفرنسية المتأثرة بالحرب، إلا أن التقليد لم يعمّر في أميركا، وسرعان ما خبا مختفياً، واستمر في بريطانيا، ونيوزيلندا، وأستراليا.
الاحتفال بإحياء الذكرى هذا العام توافق مع مرور مائة عام وعام على نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي الحرب التي قادت نتائجها، خلال سنوات قليلة، إلى حرب عالمية أخرى، أشد هولاً وروعاً ودماراً وقتلاً. وبدلاً من تعلُّم الدرس واستيعابه، اختار العالم السير في اتجاه التجاهل والنسيان، مصرّاً، وبعناد، على مواصلة كتابة تاريخه، على اليابسة، بالعدوان وبإراقة الدم، والتفنن في إبداع أدوات ووسائل القتل والدمار.
هذا الإصرار البشري على مواصلة الحروب والقتل كان دافعاً وراء تشكّل جبهة مضادة تدعو للسلام وتتبنى زهرة خشخاش بيضاء كرمز لها، في تضاد مع الزهرة الحمراء، يعلقها أنصارها على الصدور مفتخرين، ومنبهين إلى ضرورة تقوية وتعزيز الدعوة إلى السلام العالمي ونبذ الحروب، واستبدال الأبيض المسيل بلون الدم القاني. الاتحاد القومي للمعلمين البريطانيين، الذي يُعدّ أكبر تنظيم نقابي للمعلمين في بريطانيا، دعا، هذه السنة، المدرسين والطلاب والعاملين في مجال التعليم إلى تبني تعليق الزهرة البيضاء، الأمر الذي أثار حفيظة وغضب كثير من كبار ضباط الجيش والنواب والنشطاء العاملين في مجال دعم ضحايا الحروب. وانتقلت المعارك بين المعسكرين إلى صفحات الرأي في العديد من الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، على الإنترنت، بين مؤيد ومعارض.
في اليوم التالي للاحتفال، أثارت اهتمامي صورة كبيرة، نُشِرت في الصفحات الأولى لمعظم الصحف، تجمع رؤساء الوزراء السابقين - الأحياء منهم، مضافاً إليهم رئيس الحكومة الحالي، وزعيم المعارضة العمالية، وقد ارتسم الحزن والوجوم على وجوههم، وهم يحملون بين أياديهم أكاليل مستديرة من زهر الخشخاش، الأحمر، متهيِّئين لوضعها على قبر الجندي المجهول.
كلهم ارتدوا معاطف غامقة الألوان، اتقاءً للسعات برد ذلك الضحى. ما يلفت الانتباه، في الصورة، هو الإحساس الذي تتركه، لدى القارئ، بأن الحزن والوجوم الطافح على الوجوه، مضافاً إليهما انتفاء الانسجام في لغة الأجساد، وتنافرها الواضح، ليس مبعثه، لدى كل منهم، الحزن على مَن قضوا موتاً في الحروب، بل حضورهم الاضطراري، ووقوفهم متجاورين، بقلوب شتّى، ومثقلة بالعداء، وغير قادرة على النسيان والصفح.
ويبدو لي، من تجربة وخبرة في المتابعة والرصد للسياسة وأهلها، أن السياسيين والنسيان يسيران في خطَّين متوازيين لا يلتقيان أبداً. وإذا صادف وحدث بينهما لقاء، فبدواعٍ اضطرارية، وتكتيكية تستلزمها المصلحة الشخصية الوقتية، ولفترة زمنية بسيطة، ثم يفترقان؛ إذ من أين للنسيان أن يجد طريقاً إلى عقل وقلب السيد بلير، مثلاً، في علاقته بالسيد غوردون براون والعكس؟ وكيف يمكن للسيد ديفيد كاميرون نسيان ما أذاقه السيد بوريس جونسون من مرارة، وما أراه من غدر؟