ليونيد بيرشيدسكي
TT

روسيا وسلاح اللغة الفتاك

وفقا لما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن «الروسوفوبيا (الرهاب من روسيا)»، و«القوميين العدائيين»، وبعض البلدان المعينة (في إشارة إلى أوكرانيا ودول البلطيق) يشنون حربا ممنهجة على اللغة الروسية. وهذا من التصريحات القوية للغاية. ولكن اعتبارا لأن اللغة الروسية تعد هي اللغة الرئيسية الوحيدة الخاضعة للسيطرة الحصرية لمسمى الدولة الروسية، فإن المقاومة التي تلقاها والخسائر التي تتكبدها هي أكبر بكثير مما تواجهه اللغات الأخرى المنطوقة على نطاق عالمي واسع.
واللغة الروسية، وفقا لموقع المعني بتصنيف أكثر من 7 آلاف لغة حية على مستوى العالم، تحتل المركز الثامن بين اللغات الأكثر استخداما في العالم؛ حيث يصل تعداد الناطقين باللغة الروسية إلى 258 مليون متحدث. ما يجعلها واحدة من اللغات القليلة التي يوجد الكثيرون ممن يتحدثون بها خارج الدولة الأصلية، إذ يبلغ تعداد روسيا الحالي نحو 145 مليون نسمة.
ولا تحظى البلدان التي نشأت منها مثل تلك اللغات، كما أنها لا ترغب كذلك، في أي شكل من أشكال الاحتكار اللغوي الفارض للقواعد أو حقوق الملكية عليها. تعتبر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من المصادر الأساسية للغة الإنجليزية على نفس القدر من الأهمية، ولكن لا تحاول أي منهما فرض معاييرها اللغوية الخاصة على بلدان أخرى ناطقة باللغة الإنجليزية مثل أستراليا أو الهند. وتواصل الصين الاستثمار في محاولة نشر لغة الماندرين من خلال سلسلة معاهد «كونفوشيوس» على مستوى العالم، بيد أن النسخة التايوانية من لغة الماندرين، وهي اللغة الرسمية في تايوان، ذات تميز بالغ عن اللغة الصينية الأم. كما لا تحاول ألمانيا إملاء الشروط اللغوية وأساليب الاستخدام على سكان النمسا وسويسرا الناطقتين بنفس اللغة. ويروق للفرنسيين السخرية من اللهجة الفرنسية المنطوقة في بلجيكا، ولكن لا يمكنهم حمل سكان بلجيكا على الاستعانة بنفس المصطلحات أو النطق باللهجة الفرنسية الباريسية. وربما يكون من المنطقي العلم بأن النسخة البرازيلية من اللغة البرتغالية تختلف كثيرا عن تلك المنطوقة والمستخدمة في البرتغال.
لكن لا تماثلهم روسيا في ذلك أبدا، إذ ذكر توماس كاموسيلا، الذي يدرس تاريخ اللغات والسياسة اللغوية في جامعة سانت أندروز في اسكوتلندا، أنه يوجد 22 نظاما سياسيا تستخدم فيها اللغة الروسية على نطاق كبير في «الكتابة، والحديث، ووسائل الإعلام المختلفة، والحكم والإدارة، والمطبوعات والنشر، والتعليم». وهذا يكاد يقترب من الانتشار الواسع الذي تحظى به اللغة العربية.
ولكن على غرار ما قال كاموسيلا كاتبا العام الماضي: «اللغة الروسية هي اللغة العالمية الوحيدة التي يمكن تفسيرها ككيان وحدوي ومتجانس، وذات صفة رسمية مع انعدام وجود دولة متباينة أو تنوع عرقي مغاير. ويبدو الوضع الراهن على هذا النحو المذكور نظرا لأن روسيا وغيرها من بلدان ما بعد الاتحاد السوفياتي تتفق جميعها مع إصرار موسكو الآيديولوجي الراسخ على أن التحدث باللغة الروسية هو العلامة الأكيدة على أن الشخص ينتمي إلى الأمة الروسية، على الرغم من حقيقة واضحة مفادها أن هذا المواطن قد يكون من أبناء بلد آخر غير روسيا نفسها. وهذه الطموحات الروسية تحت قيادة موسكو صوب الوحدة القومية والتجانس اللغوي - المتماثل لدرجة كبيرة مع الدول القومية الإثنوية اللغوية في أوروبا الوسطى - لم يُسمع به من قبل بين البلدان التي تستخدم اللغات العالمية الأخرى في الأغراض الرسمية أو التعليمية على أراضيها».
وضعت القواعد الرسمية للغة الروسية وصيغت قواميس اللغة الأحادية والثنائية في العاصمة موسكو. وأي انحراف عن هذه القواعد مما يمكن أن يحدث في أي مكان آخر يتحدث مواطنوه اللغة الروسية يجري على الفور استهجانه ويُعامل معاملة الأخطاء الفادحة واجبة التصحيح، وفي بعض الأحيان يجري تسييس الأمر لأغراض معروفة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك كانت عبارة «في أوكرانيا»، كان المعيار المؤيد من قبل موسكو يقول إن العبارة تُنطق «نا أوكرانيا»، في حين أن الناطقين باللغة الروسية في تلك البلاد يستخدمون عبارة «في أكرانيا»، وعلى الرغم من تماثل المعنى في العبارات الثلاث، يمكن للمرء الوقوف على وجهات نظر السياسي المتحدث فيما يتعلق بعلاقة أوكرانيا مع روسيا من خلال تتبع هذه العبارات الثلاث فقط.
ويقطع الأمر شوطا بعيدا على مسار تفسير التبادل الغريب الذي وقع مؤخراً أثناء اجتماع لمجلس اللغة الروسية في الكرملين. ومن خلال الإشارة إلى استخدام الرئيس فلاديمير بوتين للفظة «الحرب»، دعا المستشار الرئاسي البارز فلاديمير تولستوي، الحفيد الأكبر للأديب الروسي الكبير ليو تولستوي مؤلف ملحمة «الحرب والسلام»، إلى إنشاء برنامج حكومي خاص يُعنى بمحاولة إيقاف الانكماش المتواصل للعالم المتحدث باللغة الروسية فيما وراء حدود الاتحاد الروسي، وقال السيد تولستوي: «الحرب مستمرة في العالم المتحضر المزعوم ضد العالم الروسي، وضد اللغة الروسية، وهذا يتيح لنا اعتبارها كسلاح من أمضى الأسلحة وأقواها وأكثرها ترهيبا، مما يوجب الحفاظ على تأهبها واستعدادها القتالي التام».
غير أن الرئيس الروسي قد استثنى الأمر بقوله: «دعونا نتفادَ استخدام تلك التسميات. إنني جاد فيما أقول. من المنطقي الامتناع عن استخدامها تماما. ولماذا أقول لكم ذلك؟ لأن اللغة إن تحولت إلى سلاح، فسوف يشرعون في محاربتها كسلاح حقيقي. وهم يحاربونها على أي حال، ولكن لأسباب وأغراض أخرى. أجل، اللغة الروسية قوية للغاية بمعنى من المعاني، وهي نوع من أنواع القوة الناعمة. وهذا كاف للغاية بالنسبة إلينا كما أعتقد».
تنظر الآلة الدعائية الرسمية في روسيا أن اللغة الروسية هي أداة التواصل المهمة مع العالم الروسي المزعوم، والمفهوم أنه عالم الشتات والمهاجرين، إذ انعزل السكان الناطقون باللغة الروسية في بلدان ما بعد حقبة الاتحاد السوفياتي عن روسيا عقب انهيار الاتحاد القديم. ويشير الاصطلاح الرسمي لهم بأنهم: «المواطنون القاطنون في الخارج».
ويدعونا مفهوم أن روسيا أمة مقسمة إلى مقاربة ممركزة إلى اعتبار اللغة أداة المحافظة على روابط أولئك الأشخاص مع الوطن الروسي الأم. ولكن من وجهة نظر بلدان ما بعد الحقبة السوفياتية، ولا سيما دول البلطيق، فإن ذلك الخط الفاصل بين اللغة كأداة وكسلاح هو خط رقيق للغاية، فضلا عن اعتبارات الشتات، والطابور الخامس. وبعد كل شيء، كان من تداعيات الحركات الانفصالية المدعومة من موسكو في مولدوفا أوائل تسعينات القرن الماضي، وفي شرق أوكرانيا منذ عام 2014، مع ضم شبه جزيرة القرم الناطقة باللغة الروسية، أن رفضت كل من مولدوفا وأوكرانيا الاعتراف باللغة الروسية كلغة تعامل رسمية.
ويمكن لأحدنا القول، مع ذلك، إن عشرات الملايين من الناطقين باللغة الروسية الذين يعيشون في بلدان ما بعد الحقبة السوفياتية، في أوروبا وما وراءها، لا ينتمون جميعهم إلى الشتات الروسي الذي يُراد الاحتفاظ بروابطه مع الوطن الروسي الأم. ويرى الكثيرون منهم أنفسهم أعضاء في جالية أقلية عرقية تملك مصالح ذات صلة قوية بسياسات بلدانهم الحالية (وهذه هوية مشتركة وشائعة في دول البلطيق)، تماما كالأعضاء متعددي اللغات الآخرين في نفس المجتمع (وهذه هي الحالة الراهنة في أوكرانيا)، أو على اعتبار أنهم مهاجرون يتطلعون إلى التكامل والاندماج في الثقافات الأوروبية (وهي حالة متكررة ومشهودة في أوروبا الغربية).
*بالاتفاق مع بلومبرغ