وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

بغداد عاصمة الثقافة… النَّجفي اختار مهرجان الرَّصيف!

أُعلن عن بغداد عاصمةً للثقافة العربية لهذا العام، وهي خطوة يباركها الجميع، ماعدا مَن يكره لهذه المدينة، ذات الماضي التليد، أن تندمل جراحها، وتنسى أوجاعها البالغة، ومعلوم الغايات شتى، وربَّما في أولها الحنين إلى الماضي القريب، والمهرجانات التي كانت تُقام وتخص نخبة مِن المثقفين وعادة تسبق الدعاية الثَّقافية، وكان المعارضون حينها يتولون الدَّور نفسه، أي يتمنون في قرارات نفوسهم ألا تنجح مهرجانات العدو ولا تمر بسلام، وسيزداد الفرح إذا نُسف مهرجان وتزايد عدد القتلى فيه، مثلما حصل عند تفجير السفارة العراقية ببيروت(1983) وغيرها مِن المجازر، هذه هي الحقيقة التي صار يمارسها (المقاومون) الآن، بعد تبادل الأدوار بلحظة ليست عجيبة على الزمن ومفاجآته.

دارت الأيام وأخذت المعارضة، أو المقاومة السابقة، تُقيم المهرجانات الثَّقافية، وفي المكان نفسه، وبشعار الدِّعاية أيضاً أكثر مِن شعار الثَّقافة، وقرأنا لمَن كتب عن المهرجان الأخير، المتواصل “بغداد عاصمة الثقافة”، ووجدنا المديح نفسه، وبالمقابل قرأنا للمعارضين القلقين مِن نجاح المهرجان فشله قبل قيامه، مما يشي بأن الزمان هو هو لم يتغير سوى الأسماء تبدلت، ولا أعني مسؤولي المهرجان والمنفذين، إنما هؤلاء مجرد موظفين أو مقاولين، إن صحت العبارة، ليس عليهم إلا تغيير مستهل الخطاب أو القصيدة، فالمحتوى أو المضمون واحد، فصار الرئيس القائد دولة الرئيس!
في ما يخص مسؤول بالمهرجان أتذكر أنه كنت عام 2010 في معرض الشارقة للكتاب وزرت زاوية وزارة الثقافة العراقية بلهفة المشتاق لما سأجده من عناوين؛ لكن لم أجد سوى مجموعة شعرية لشاعر، وسألت مَن يكون؟ فقال لي البائع أو العارض: إنه فلان الفلاني.
عندها عدت منكسراً متحسرا، على بلد ريع نفطه بلغ سبعة مليارات في شهر واحد.
لهذا لم أتفاءل مِن إقامة مهرجان بغداد عاصمة الثَّقافة! وبالفعل كان المشهد محزناً، يعبر عن ممارسة دعاية تعدت ممارسات السابقين.

هنا نأتي على وزارة الثقافة وأحوال المثقفين، المشردين على أصقاع الدنيا، وكم من قامة وطنية ثقافية خدمت العراق لعشرات السنوات ويئس من الحصول على تقاعده. ففي زمن تقلُّ فيه القراءة، ويشتد فيه تحايل النَّاشرين، وتكثر سرقات الطارئين، وكيف إذا أُضيف عدم اهتمام سلطة وطنية، وعدم اعتراف اتحاد الأدباء العرب، بأدب عراقي! أتضح من أول وزارة منتخبة أن وزارة الثَّقافة من الحواشي، شأنها شأن درس النَّشيد والرَّسم بالمدرسة، لذا ما قُدم اسم، لا بالعير ولا بالنفير، بالنسبة للشأن الثقافي، ضم إلى رتل الوزارة، التي ما زال أربابها ينعتونها بأقوى الوزارات، ولا أدري لماذا!

من غير آبائنا في الثقافة والبحث، من نقاد وروائيين وشعراء وباحثين، من المعتصمين ببغداد، ومن النَّاطرين بالعواصم القريبة والقصية، أقرأ لنُخب شابة قصصا وشعرا وفي الفن والنَّقد، هؤلاء يعيشون على خطر من حماية المتوهم أنه بطل قصة قصيرة، أو أنه المقصود بالقصيدة، أو كُتب عن فساد دائرته وعِصبة أُسرته، وقد حصلت ممارسات موجعة ضد هؤلاء، وحتى هذه اللحظة لم تمارس حماية أهل الثقافة والإعلام.
لعلَّ مجال الأدب والعلم والفن هو أقل المجالات تلقى عون من الدَّولة، حتى أخذ أصحاب ثروات ومؤسسات، خارج العراق، يتعطفون على هذا الأديب أو ذاك، بعلاج أو تيسير أمر معاش، مع أن البلاد غنية وثرواتها تتبدد هناك وهناك. ولو تفحصت أسماء وعناوين الفاسدين لا تجد بينهم أديباً أو إعلامياً أو صحافياً أو مثقفاً بوجه عام، بل تحملوا نزق كلِّ مَنْ فُرض على رؤوسهم بفعل المحاصصة والجهاد السابق، وهو لم يكن شيئاً بالنسبة لقامات في مجالات الثقافة. لقد فرض عليهم أصحاب مهن لا صلة لها بعنوان كتاب أو كتابة مقال.

نعرج على شيء مِن التَّاريخ، قيل إن أبرز المهتمين بشأن الأدباء، والتَّمعن في أحوالهم، هو الوزير ابن الفرات (ت 312 هـ)، ليس ملاحظةً منه، إنما جرى حديث بمجلسه، جاء فيه: “لعلَّ الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق فضة (سدس الدِّرهم) أو دونها ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر. وكان ابن الفرات موصوفاً بسعة الصَّدر، وحِسن الخُلق، وكان فرق في الشُّعراء مالاً، فقال لما جرى حديث هؤلاء: أنا أولى مَنْ عاونهم على أمرهم، وأطلق لهم ما يصرفونه إلى ذلك عشرين ألف درهم”(مسكويه، تجارب الأمم).

قبل ابن الفرات اهتم بأمر المثقفين الأمير مسلمة بن عبد الملك (ت 120 هـ)، فقد أوصى عند وفاته بالثلث من ثروته لطلاب الأَدب، مع قوله: “هم مجفوون”، أو قال: “إنها صناعة مهجورة تجفو أهلها”(المصدر نفسه)! وحسب رواية الكاتب الفذ محمد بن يحيى الصَّولي (ت 335 هـ) أن الأمير بجكم(ت 330 هـ) أمير واسط، على الرغم أنه لم يكن من أهل الثقافة قال له: “أنا إنسان وإن كنتُ لا أحسن العلوم والآداب، أحب أن لا يكون في الأرض أديب ولا عالم ولا رأس في صناعة، إلا كان في جنبتي، وتحت اصطناعي، وبين يديَّ لا يفارقني” (الصولي، كتاب الأوراق – قسم الراضي بالله والمتقي لله).

لا يستجدي الأدباء وأهل الثقافة الأُصلاء، لا الطارئون من مستشاري الثقافة والإعلام، أن يظهر لهم أمير مثل بجكم، أو وزير مثل ابن الفرات يشعر بهم، إنما هو حقهم، فكم جاهل بالبلاد غدا كانزاً الفضة والذَّهب، له منازل لا منزل واحد، وفي خدمته سرب من العربات، والحمايات، أما أهل الأدب والثقافة، فيلوذون من الهجير بظل المقاهي الخالية من أُنس زمانها الأول، يهيمون في الأصقاع بلا مؤونة، وهم بأقلامهم تحولوا إلى عِراقات مانعة من التطاول على العراق، أليس لهم حقوق كبقية (المجاهدين المناضلين)!

وبهذا يسكت مَن كان يلوم توزير مهندس زراعي على الثقافة والمثقفين في العهد السابق! فخلال العشر سنوات تساوى الحاضرون بالماضين، بل الأمور أخذت تنزلق إلى الأسوأ. وقرأت لمَن كتب عن ضرورة أن يعتزل المثقف الأصيل هذا الزمن، ولا يقترب مِن مهرجان معبأً بالدعاية لوضع خاوٍ كل الخواء، لأن الزمن العراقي اليوم لزمرة الأدب الكابي، وهي:
تصيد الجاه والألقاب ناسيةً
بأن في فكرة قدسية لقبا (الجواهري 1944).

أقول: ومع شدة الاحباط تمنيت لو صارت بغداد عاصمة للثقافة على الحقيقة لا المجاز! فلعلَّ قنديلاً يضيء في هذه الظلماء، لكن للأسف أن أخبار هذا المهرجان لم ينسني بؤس زاوية وزارة الثَّقافة العراقية في معرض الشارقة والحافلة بدواوين الرئيس الأعلى للمهرجان، وكأنها هي المهرجان نفسه.
أقول للمتألمين من الحال المزرية، والضياع الثقافي والحضاري، وغياب بغداد وزاء ركام مِن الأزبال والفواجع، لا تأخذكم المهرجانات إذا لم تكن نابعة مِن روح بغداد وتراثها الثري، ولكم في قصة الشاعر المعروف أحمد صافي النَّجفي (ت 1977) مثلاً، يوم كان يعيش منكفئاً بين بيروت ودمشق، وعُرف عنه أنه يرفض المهرجانات، ويكره أن يُخص بأمسية شعرية على الرَّغم مِن الإلحاح في الدعوات، وقد عبر عن ذلك عن حكاية حصلت معه قائلاً (الدِّيوان):

كنت على الرصيف أجلس يوماً
وعليه من العابريــــــــن زحامُ
قال ســــــــــــــلامٌ، قلت مَن؟
قال/ مَن بشـــــــــعرك هاموا
أنت المحكي بين طيـــــــور
وسواك الأصداء والنُّظــــامُ
كان ذلك السلام لي مهرجاناً
مهرجاني على الرّصيف يُقام

فمهرجانات الأرصفة أثرى ألف مرة مِن زاوية وزارة بائسة، وأموال تصرفها بلا أثر ثقافي، حاولوا أن لا تأخذكم الدعايات لحيتان الفساد بعيداً عن مشغلكم الثَّقافي!