حازم خيرت
السفير المصري الأسبق في سوريا
TT

اللجنة الدستورية السورية... التطلعات والمخاوف

في وقت اتجهت فيه الأنظار إلى شمال شرقي سوريا لاستبصار تداعيات الهجوم التركي ونتائجه، انبعث من جنيف أمل جديد قد يمهد لعملية سياسية لحل الأزمة السورية، بعدما دشنت اللجنة الدستورية السورية أول اجتماع لها في 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتويجاً لما يناهز العامين من المفاوضات والسجالات.
جاء ذلك حينما أعلن المبعوث الأممي غير بيدرسن، بنبرة تفاؤلية حذرة عن بدء أعمال اللجنة الدستورية، واصفاً إياها باللحظة التاريخية، وأنها قد تكون الخطوة الأولى لبدء عملية سياسية جادة وطريقاً لحل سياسي أشمل للأزمة السورية.
ووفقاً لاتفاق الأطراف المعنية، فإن مهمة اللجنة هي إما صياغة دستور جديد، أو إجراء تعديلات على الدستور الحالي، وتتكون اللجنة من 150 عضواً بالتساوي بين الحكومة و«هيئة التفاوض السورية» (المعارضة)، التي تمثل المعارضة والمجتمع المدني، وسيتم من خلال هذه اللجنة إنشاء لجنة فرعية مكونة من 45 عضواً، وبالتساوي أيضاً بين الأطراف الثلاثة، مهمتها صياغة الدستور، أو تعديل الدستور الحالي، وعرضها على اللجنة الدستورية وإصدار القرارات بموافقة ثلثي الأعضاء، ثم عرض الدستور المعدل أو الجديد على الشعب السوري للاستفتاء عليه.
ورغم الخلافات العميقة بين الأطراف السورية داخل اللجنة، فإن هناك مؤشرات إيجابية توحي بالرغبة المشتركة في تخطي العقبات بعد أن نجح بيدرسن في التوصل إلى الاتفاق على وثيقة «مدونة السلوك» التي يلتزم بها المشاركون، إضافة إلى التوافق على تشكيل اللجنة المصغرة المكونة من 45 عضواً لبحث الإصلاح الدستوري.
ورغم التفاؤل الذي أبداه بيدرسن، فإن مهمة هذه اللجنة ستواجه حتماً العديد من العقبات والتحديات، فالمعارضون ذاتهم ينقسمون إلى فريقين؛ أحدهما يرفض هذه اللجنة من الأساس ويرى أن المعارضة الممثلة فيها لا تمثله، بل إنها - حسبما يرى - تنازلت عن المبادئ الأساسية للمعارضة، وأن اللجنة أنشئت وفقاً لحسابات موسكو المنحازة للحكومة السورية. أما الفريق الآخر، فيرى في اللجنة منعطفاً مهماً وإنجازاً يمكن من خلاله تحقيق ما لم تستطع المعارضة تحقيقه عسكرياً.
وفيما يتعلق بالحكومة السورية، فيمكن القول إن هناك مؤشراً إيجابياً تمثل في ترك الباب مفتوحاً لإمكانية صياغة دستور جديد، وهو ما كانت ترفضه قطعاً من قبل إصراراً على تعديل الدستور فقط. هذا المؤشر الإيجابي ظهرت ملامحه بصورة أكثر وضوحاً من خلال ما أبداه بيدرسن من ارتياح بعد مقابلته الأخيرة مع وليد المعلم وزير الخارجية السوري، التي وصفها خلال حديثه مع جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية، بالبناءة والإيجابية، وأن المعلم أبدى استعداداً للوصول إلى حلول للتحديات التي تواجه سوريا.
مما لا شك فيه أن الجهد الكبير الذي قام به المبعوث الأممي قد حقق ما يمكن وصفه بالخطوة الأولى لحل سياسي أشمل، وهو ما انعكس على تصريحاته وأحاديثه التي اتسمت بالأمل والتفاؤل، وحرصه على الحياد والابتعاد عن الانخراط في صدام مع أي طرف سواء لدى الفرقاء السوريين أو الدول الفاعلة في المشهد السوري، مع تأكيده أن هذه اللجنة سورية خالصة دون أي تدخلات خارجية، فضلاً عن تطلعاته إلى أن الضامنين الثلاثة في «عملية آستانة» لن يكونوا حجرة عثرة أمام أعمال هذه اللجنة، لأنهم يستندون إلى القرار «2254» الذي يستند إليه الأساس التنفيذي الخاص باللجنة الدستورية.
بيدرسن كان قد أجرى محادثات مكثفة على مدى الشهور الماضية مع الأطراف السورية الثلاثة المعنية باللجنة، وتوصل إلى أن الافتتاح سيكون فقط للسوريين والأمم المتحدة لتأكيد طبيعة المسار، صحيح أن هناك وجوداً دبلوماسياً استباقياً من «مجموعة آستانة»، لكنها لم تشارك من قريب أو بعيد في الافتتاح أو في أعمال اللجنة الدستورية على حد ذكره، وأنه يتطلع إلى دعم المجتمع الدولي لهذه اللجنة، وتشجيع الأطراف المشاركة التي تضم 150 سورياً يمثلون أطيافاً مختلفة من المجتمع السوري، على استثمار هذه الفرصة والتوصل إلى خطوات من شأنها أن تساهم في إيجاد حل نهائي لأزمة تعد واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، لا سيما أن الطريق لا يزال طويلاً في ظل دولة عاني ولا يزال يعاني شعبها من الكثير من العنف والإرهاب والانقسام الكبير داخل المجتمع السوري، ولا عجب في ذلك بعدما بات يوجد على أراضيها خمسة جيوش أجنبية، فضلاً عن انقسامات الداخل السوري وشرذمته.
من الواضح أيضاً أن المبعوث الأممي حريص على النظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس ولا ينظر إلى الجزء الفارغ منها، ولذا فقد يكون متجنباً التعاطي مع كل من يشكك في نجاح تلك اللجنة في التوصل إلى اتفاق، فهو يسعى إلى خوض تلك التجربة على أمل أن تحقق شيئاً على الأرض، خصوصاً بعد أن تكلل جهده بالنجاح في أول خطوة كانت بمثابة تحدٍّ كبيرٍ، وهي التوصل إلى اتفاق حول قائمة الأسماء المشاركة في اللجنة، والتوافق على المبادئ العامة التي يتفق عليها أغلب السوريين، وهي احترام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وسيادة سوريا ووحدتها واستقلال وسلامة أراضيها، وأن مسار العملية السياسية في سوريا هو بقيادة السوريين وملك لهم، وأنه لا يوجد حل عسكري للأزمة بجميع أشكالها، والتأكيد على ضرورة وقف شامل لإطلاق النار وفقاً لقرار مجلس الأمن «2254». وأخيراً، وهذا هو الأهم، تتضمن هذه المبادئ أيضاً إجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة.
المشاكل والعقبات التي تواجه اللجنة لن تكون سهلة، فهناك قضايا شائكة ومطبّات ستواجه حتماً سير اللجنة، وهي معروفة لدى القاصي والداني، وبالتالي فإنه لا يجب الإفراط في التفاؤل، فهناك أسئلة عدة تتعلق بالمشهد السوري؛ فهل كل طرف مستعد حقاً لتقديم تنازلات مؤلمة؟ وهل يمكن فعلاً الاتفاق على وضع وصلاحيات رئيس الجمهورية، وإمكانية ترشحه مرة أخرى، وقدر المرونة التي قد تبديها الأطراف في عملية الانتقال السياسي؟ وهل يمكن أن يرفع الجميع شعار «عفا الله عما سلف» والبدء في فتح صفحة جديدة بهدف إقامة سوريا جديدة، أم إن الجرح عميق وغائر؟ وهل الدول الفاعلة لديها النوايا الحسنة لاستقرار سوريا؟ أم إن لكل دولة أجندتها ومصالحها وبالتالي ستلعب على أوتار الفرقة بين الأطراف السورية؟ وهل ستكون اللجنة الدستورية هي الوصفة السحرية للحل في سوريا، أم إنها ستغرق في بحر التناقضات والتفاصيل؟
إن نجاح مهمة اللجنة الدستورية في نهاية المطاف هو في أيدي السوريين الوطنيين الحريصين على استقرار هذا البلد العزيز والقريب من قلب كل مواطن عربي، فعليهم أن يتخلوا عن أجندات ومصالح ضيقة ذات طبيعة مؤقتة، وأن يضعوا مصلحة الشعب السوري واستقراره وسلامته فوق كل اعتبار، وهذا سيعتمد أساساً على ما يمكن أن تقدمه الأطراف المعنية من تنازلات، لأنه إذا تمسكت الحكومة السورية أو المعارضة بمواقفهما السابقة، فإن اللجنة ستفشل وستعود إلى المربع الأول، وسيهمش دورها بلا ريب.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الكلمة التي ألقاها هادي البحرة، رئيس وفد المعارضة في افتتاح اللجنة وحثه على تغيير الطريقة التي يفكر بها السوريون والتوقف عن العمل على أساس الدوافع العاطفية، وتضميد الجراح والأحزان، واستماع بعضهم لبعض، وتحديد المشتركات وتجاوز نقاط الخلاف، وذلك بدلاً من دائرة العنف وهي دائرة مفرغة لا نهاية لها، وأنه يجب الحفاظ على ما تبقى.
مرة ثانية؛ اللجنة الدستورية بلا جدال خطوة كبيرة في الطريق الصحيح، لا بد من أن يتمسك بها الجميع، إن حرصوا على مصلحة شعبهم ووطنهم. هي خطوة لا أرى عنها بديلاً، فالبديل يبدو مفزعاً، وهو استمرار إراقة الدماء بلا طائل وبلا أفق قريب للحل.

- السفير المصري الأسبق لدى سوريا
خاص بـ«الشرق الاوسط»