إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مارك في ساحة التحرير

لا تعرف ماذا فعلت بنا يا عزيزي السيد مارك، صاحب الفضاء الأزرق!
كانت الأمور من قبلك تشبه كيس الجدة. تعويذة وحبات من الهيل ومرهم لوجع المفاصل. لكنها من بعدك انفتحت على أعاجيب لم نكن نتخيلها. ماذا يعني أن يطلق أحدهم شعاراً فإذا به يحط في جيب كذا ألف شخص في اللحظة، أصدقاء أو غرباء من عابري «فيسبوكك»؟ كتبت إحدى الصديقات أن حسبتنا كانت سهلة. يكفي أن يتوجه ضابط إلى القصر الجمهوري وآخر إلى مبنى الإذاعة. نسمع البيان رقم واحد ومن بعده نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدي». هكذا كانت تجري انقلاباتنا وثوراتنا. لكنك جئت ووضعت إصبعك في هواتفنا وانقلبت الطاولات.
لم يعد شبابنا شغوفين بتنظيم تحركاتهم وتجميع قواهم واستدعاء الأنصار من خلال شاشتك فحسب، بل بدأوا يطالبون بتوثيق هذا المهرجان. لا بد من تسجيل كل الصور والأفلام والشعارات واللافتات وحتى «التكاتك» (جمع توك توك). صاروخ الثورة القادر على اختراق خرم الإبرة. هي لحظة فذة في العمر. ولا أحد يريد لهذه اللحظة أن تتبدد وتنسحب من الذاكرة. نزل الشباب إلى التظاهر، وفتحوا صدورهم للموت. قيل للشابات إن عليهن المكوث في البيوت، ورفع رايات التضامن فوق الأسطح. على أي عراقية تلقي مزاميرك؟ نزلن بالآلاف إلى ساحة التحرير يحملن لافتات مخطوطة بأقلام الكحل. يغطين نصف الوجه بكمامة تقي من الغاز، فيزداد التماع العيون بين الرصافة والجسر. تختلط دماء الشباب بالقصائد والأهازيج. وتعود إلى الواجهة نبوءة الجواهري: «سينهض من صميم اليأس جيل مُريد البأسِ جبارٌ عنيدُ/ يقايض ما يكون بما يُرجّى ويعطف ما يُراد لما يُريدُ».
والشعب الذي كان موصوفاً بالعنف كشف عن حسّ عال بالتضحية والجمال. رجال ونساء يعرفون ما ينقصهم: «نريد وطناً». وهم يرسمون حدوده بوضوح. لا طائفية ولا محاصصة ولا ارتهان للخارج ومحاسبة الفاسدين. تفضلي كهرمانة وصبّي الزيت على رؤوس كل حرامية بغداد والبلد. أولئك الذين جعلوا من دولة غنية ساحة لكل من هبّ ودب. يهاجر شبابها للعمل لاجئين على موائد اللئام. ترى في الساحة شيخاً بلحية بيضاء يحمل لافتة يخاطب فيها أبناءه: «لا تدعوهم يسرقون ثورتكم. اصمدوا فقد حزموا حقائبهم».
لا أرى المتظاهرين جيلاً يقطع مع الماضي، لا يشبهنا ولا نفهمه. إنهم أولئك الصغار الذين نشأوا في بيوت خرج منها جنود مرغمون وآباء معتقلون وأعمام أسرى وأخوال معاقون وشهداء في ألف جبهة وجبهة. ربّتهم جدّات وأمهات مرتديات السواد لا تنشف دموعهن. شباب يرى نظراءه في العالم يدرسون ويحبون ويرقصون ويبتكرون ويشتغلون. يحملون حقائبهم على ظهورهم ويسوحون في بلاد الدنيا. يتسلقون الجبال الخضر ويسبحون في البحيرات الزرق. يتمتعون بنعمة الحياة. لا دين ينهاهم عن الدنيا. لا عمامة تتوعدهم بالعقاب. لا رصاصة تغتالهم بليل. أين هو منهم؟ يتصاعد السيل ثم يبلغ الزبى. والزبى جمع زُبية. وهي الرابية التي لا يعلوها الماء.
ماذا فعلت بنا يا سيد مارك أنت وصحبك؟ من أي مجرّة هبطت تلك الصحون اللاقطة التي لا تتوقف عن بثّ الصور؟ نحن لا نعيش على هذه الأرض وحيدين. وهي حين تميد تحت الأقدام، فإن الزوائد الدودية هي أول من يتدحرج ويهرب إلى جحوره. لا يبقى في الساحة سوى شعب جميل يطالب بإنسانيته. يفتدي حريته بالدم، ولم يعد يخشى تسمية الأشياء بأسمائها. نقرأ لافتة تحملها شابة في ساحة التحرير: «تتبغدد علينا وأنت من طهران».