استضافت مدينة سوتشي أول قمة أفريقية – روسية، يومي 23 و24 أكتوبر (تشرين الأول)، وحضر تلك القمة 43 وفداً أفريقياً رفيع المستوى. بطبيعة الحال يثير هذا النوع من الأحداث من حيث نطاقه وتكلفته - حيث تم استقطاع أكثر من 70 مليون دولار من ميزانية الدولة الروسية لتغطيته - كثيراً من التكهنات بشأن «عودة روسيا إلى أفريقيا». مع ذلك، هذا الحدث ضروري لمعرفة مدى واقعية فكرة «استعادة المواقع التي تمت خسارتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي».
أولاً، كانت المصالح الروسية في أفريقيا محدودة طوال الثلاثين عاماً الماضية. ويصدق ذلك أيضاً على الإرث السوفياتي في أفريقيا جنوب الصحراء، التي باتت نسياً منسياً إلى حد كبير. الإحصاءات الرسمية هنا معبرة للغاية؛ حيث يقدر حجم التجارة الروسية مع كل الدول الأفريقية البالغ عددها 54 دولة خلال عام 2018 بنحو 20 مليار دولار فقط، رغم أن أفريقيا كانت القارة الوحيدة التي زادت حجم الصادرات إليها من المنتجات الروسية بعد العقوبات الغربية.
يمثل أكثر من نصف هذا الرقم حجم التبادل التجاري بين روسيا ودولتين فقط، هما مصر والجزائر، في حين تمثل دول شمال أفريقيا 75 في المائة من إجمالي حجم التجارة بين روسيا وأفريقيا. بل وحتى في تلك التجارة الروسية الضعيفة مع دول أفريقيا جنوب الصحراء يجد المرء أن الأسلحة الروسية تمثل جزءاً كبيراً منها.
تتخذ تلك الإحصاءات معنى أكبر، حين نراها على خلفية الوجود الصيني في أفريقيا. وتعد بكين أكبر شريك تجاري للقارة الأفريقية؛ حيث تجاوز حجم تجارتها مع الدول الأفريقية 200 مليار دولار خلال عام 2018. على الجانب الآخر؛ بلغ حجم التجارة الروسية مع الصين خلال العام الماضي 108 مليارات دولار، وتعمل أكثر من 10 آلاف شركة صينية في أفريقيا، ويتجاوز إجمالي رأس مال الشركات والأعمال الصينية تريليوني دولار.
مما لا شك فيه أن هذا لا يعني عدم أهمية بناء روسيا لعلاقات مع دول القارة الأفريقية؛ بل يمثل عقد القمة الأفريقية - الروسية إشارة للنخبة الأفريقية، بأن موسكو قد تصبح شريكاً بديلاً للدول الأفريقية في المستقبل. مع ذلك، يبدو أن الكرملين ليس مستعداً لوضع وصياغة أهداف طويلة الأجل في أفريقيا، ولا لتقديم رؤيته بشأن كيفية تبادل روسيا وأفريقيا للمنفعة باستثناء مجال تجارة الأسلحة، وتنمية مجال التعدين أفريقياً، وهو مجال تعمل فيه الصين والغرب بكفاءة. يمكن قول ذلك أيضاً بثقة عن الأفارقة أنفسهم المشاركين في القمة؛ حيث يأتي أكثرهم دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن شكل أو تصور للعلاقات مع روسيا في المستقبل.
ربما يكون من المبكر والسابق لأوانه الحديث عن نتائج القمة الروسية - الأفريقية؛ لكن ينبغي على الأقل ملاحظة مهمتين تمكن الكرملين من إنجازهما. الهدف الأساسي من القمة ذو بعد جيوسياسي، ويتسق منطقياً مع السياسة الخارجية لروسيا في كل من آسيا وأفريقيا، خلال الفترتين الرئاسيتين الثالثة والرابعة للرئيس فلاديمير بوتين. يتم تحقيق استراتيجية «التحول» باتجاه آسيا وأفريقيا، التي أعلن عنها الرئيس الروسي، تدريجياً بعد فرض العقوبات الغربية. وقد بات من المنطقي إلى حد كبير بعد عودة روسيا إلى الشرق الأوسط توقع الإعلان عن «العودة التالية»، واستعادة المواقع القديمة، ولكن هذه المرة في أفريقيا.
في هذه الحالة ليس من المهم كثيراً بعد القيادة الروسية عن التمتع بالفرص والموارد اللازمة لتحويل الكلمات إلى أفعال. وليس من المهم أيضاً عودتنا إلى أفريقيا، أو أن تصبح هذه القمة مشروعاً لن يتكرر، فتمكن الكرملين من إعلان ذلك للعالم يمثل في حد ذاته نجاحاً كبيراً لبوتين. وقد نجح المنتدى السابق في تقديم الصورة المنشودة أمام المجتمع الدولي والمواطنين. أوضحت قصة عودة روسيا إلى الشرق الأوسط مساهمة تلك الخطوات المتخذة في السياسة الخارجية في زيادة شعبية الرئيس، في الداخل على الأقل، على المدى القصير.
استناداً إلى البيانات الخاصة باستطلاعات الرأي الاجتماعية، لم يعد الشرق الأوسط قادراً على التكيف مع هذه الغاية. وقد تراجع اهتمام المواطنين الروس بسوريا بوجه خاص طوال السنوات الثلاث الماضية، وكذلك الاهتمام بكل جوانب السياسة الخارجية بوجه عام. وقد أوضحت إجابات أكثر سكان البلاد (51 في المائة) خلال صيف 2019 للمرة الأولى منذ خمس سنوات، عدم اهتمامهم بالسياسة الخارجية. ولم يمثل السكان الشباب الذين يرون أن السياسة الخارجية الحالية ناجحة، سوى 38 في المائة. وقد أخذ الروس يقيِّمون التصريحات المتكررة لفلاديمير بوتين بشأن سحب القوات الروسية من سوريا، باعتبارها أهم أحداث العام.
في هذا الشأن يمكن أن يصلح التحول باتجاه أفريقيا الموقف على المدى القصير؛ حيث يمثل ذلك بالنسبة للشعب الحفاظ على قوة عظمى. إضافة إلى ذلك، وعلى عكس الوضع في الشرق الأوسط، لا تقترح القيادة الروسية هنا في الداخل جدول أعمال عسكرياً؛ بل تقترح جدول أعمال سلمياً. من هذا المنظور، هناك احتمال بوجود توجه نحو أفريقيا في السياسة الخارجية الروسية وإن كان محدوداً. كذلك بات لدى الكرملين مرة أخرى فرصة التأكيد على عدم عزل روسيا؛ بل وعدم إمكانية القيام بذلك، وعلى أن العالم لا يزال يسعى للتعاون مع الزعيم الروسي. يعد ذلك بمثابة أصل من السهل تحويله إلى نقود، وبيعه للاستهلاك المحلي.
مع ذلك على الكرملين معالجة مصالح براغماتية خلال قمة سوتشي. أولاً كان الهدف هو تعزيز مصالح الشركات والمؤسسات الكبرى والأفراد الذين لهم مواقع ومصالح في أفريقيا ويحيطون بالرئيس. نحن نتحدث هنا عن التجارة العسكرية، والتنقيب عن الذهب والماس، إلى جانب الشركة الدولية للتنمية السيادية، التي تم إنشاؤها عام 2019، وتم إبرام اتفاق تقدر قيمته بـ2.5 مليار دولار خلال القمة، وستقدم استشارات لحكومات كل من النيجر، وغينيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية. في هذه الحال، نواجه وضعاً ليس بالغريب بالنسبة لروسيا الحديثة، التي بات «دخول» شركاتها وكياناتها الكبرى إلى مكان ما يحدث بفضل الضغط، وليس بفضل ما تتمتع به من مزايا تنافسية.
أما بالنسبة إلى مصالح الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب التعاون الذي لا يرتبط بالتعاون الفني - العسكري، فلن تكون النتائج باعثة على التفاؤل. ويمكن القول بشكل مجمل، إنه قد تم توقيع اتفاقات ومذكرات لا تقل قيمتها عن 15 مليار دولار أثناء القمة. تتعلق أكثر تلك الاتفاقات الفعلية - وليست مذكرات تفاهم ربما لن يتم تنفيذها أبداً - بالأسلحة مرة أخرى. بوجه عام ليس ذلك من المستغرب بالنظر إلى هيمنة تجار الأسلحة على القمة. مع ذلك هناك أسباب موضوعية لو لم يتم تجاوزها فسيظل الوجود الروسي في أفريقيا مقتصراً على وجود شركات مفردة مقربة من الرئيس.
أولاً، هناك فراغ معلوماتي كبير بشأن وضع روسيا في أفريقيا، ووضع أفريقيا في روسيا؛ حيث تمثل كل منهما للأخرى منطقة مجهولة، ولا يعرف رجال الأعمال الروس أي شيء عن إمكانات القيام بأعمال في القارة الأفريقية. كذلك تعد المعلومات المتوفرة في روسيا فيما يتعلق بأسواق دول شمال أفريقيا نادرة جداً، ويتجلى ذلك على سبيل المثال في الخطى البطيئة لأعمال التنمية في المنطقة الصناعية الروسية في مصر. كذلك قدمت أفريقيا خلال العقد الماضي صورة سلبية في روسيا، باعتبارها القارة الأكثر خطورة والأقل استقراراً.
ثانياً، هناك مخاطر كبيرة جداً في الأمر. وحتى إذا افترضنا وجود شركات كثيرة في روسيا مستعدة بالفعل لاستثمار الأموال في أفريقيا، فهناك حاجة إلى فهم أن تلك الأموال «جبانة»، ولن يتم ضخُّها إلى هناك إلا عندما تستقر الأوضاع، وتصبح قابلة للتوقع بقدر أكبر من ذلك.
ثالثاً، لكل دولة من الدول الأفريقية سياسة جمركية وضريبية خاصة بها، وتختلف طرق القيام بالأعمال في كل منها، ويتصارع كثير منها فيما بينها، إضافة إلى الأوضاع الداخلية المضطربة بكل منها. في هذه الحالة لا نستطيع الحديث عن القارة ككيان واحد باعتبارها مساحة اقتصادية، ويعني ذلك ضرورة عقد كل حكومة لمفاوضات منفصلة بشأن مشروعات محددة في دول محددة، وليس على مستوى القارة كلها.
أخيراً، ينبغي على المرء إدراك أن هذه المنطقة، التي تتطور بشكل حيوي، والغنية بالموارد الطبيعية، ليست فارغة تماماً، فهناك شركات أجنبية موجودة فيها بالفعل، ولن يكون إبعادهم عنها بالأمر السهل الهين، إلا إذا تم استهداف ذلك بطبيعة الحال.
صحيح أن الأفارقة ربما لا يشعرون بالرضا عن كل شيء، فعلى سبيل المثال كثيراً ما ينبه الأوروبيون النخب المحلية بتلك الدول إلى ضرورة إجراء إصلاحات ديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، وتنمية المجتمع المدني وما إلى ذلك. بطبيعة الحال لا تلقى تلك التنبيهات أذناً صاغية لدى كثير من حكام الدول الأفريقية، الذين يعرقلون عملية بناء اقتصاد تنافسي، وإصلاح النظام السياسي في بلادهم.
على الجانب الآخر، لا تبالي الصين مطلقاً بالسياسات الداخلية التي تتبعها الدول الأفريقية؛ لكن الشروط الاقتصادية التي يضعها الصينيون ليست واضحة. من جانب تهتم الصين كثيراً بتطوير مشروعات البنية التحتية في أفريقيا، وليس فقط في الدول الغنية بالموارد الطبيعية؛ بل في تلك المحرومة منها أيضاً. من جانب آخر، كثيراً ما يرى الأفارقة أنفسهم أن السياسات، التي تتبعها الصين، تمثل حركة استعمارية جديدة، ويتم اتهام بكين بعدم رغبتها في وضع مصالح دول القارة السمراء في الاعتبار.
لذلك، ليس من المفاجئ اتخاذ الأفارقة موقفاً تجاه الدعوة الموجهة من الكرملين للمشاركة في قمة سوتشي؛ حيث يرون ذلك مؤشراً يدل على اهتمام موسكو بزيادة وجودها في أفريقيا، وبالتالي عليها تقديم بديل ما مختلف عما تقدمه كل من أوروبا والصين. إضافة إلى ذلك، كثيراً ما تنظر بعض الشعوب الأفريقية، وتحديداً تلك التي كانت تربطها علاقة وثيقة بالاتحاد السوفياتي، إلى روسيا باعتبارها «فاعل خير» على استعداد للعمل في أفريقيا على أساس مبدأ الإيثار، مثل الاتحاد السوفياتي في السابق.
بطبيعة الحال، ينبغي ألا ننسى أنه بالنسبة لكثير من رؤساء الدول الأفريقية، الدافع الرئيسي لحضور قمة سوتشي هو إمكانية عقد لقاء مع بوتين، وهو أمر مفهوم، فقد ازدادت شعبيته بين صفوف المواطنين العاديين في أفريقيا خلال السنوات القليلة الماضية. ويمنح ذلك النخبة المحلية بطاقة إضافية ذات قيمة كبيرة في المفاوضات مع الغرب نفسه.
لذا، نحن إزاء وضع توجد فيه إرادة سياسية على مستوى القيادات لإقامة علاقات أقوى بين روسيا وأفريقيا. مع ذلك أوضحت القمة عدم وجود فهم على مستوى الطبقة البيروقراطية؛ وخصوصاً الأعمال والتجارة، لكيفية تنفيذ ذلك على أرض الواقع. وجُلُّ ما يمكن لروسيا وأفريقيا دعمه وتعزيزه اليوم هو المشروعات القصيرة الأجل ذات العائدات السريعة، لا المشروعات الطويلة الأجل. وإلى أن يتحقق ذلك، لا يمكن لأحد الحديث عن عودة روسية إلى أفريقيا.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:2 دقيقه
TT
هل تنافس روسيا الصين في أفريقيا؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة