حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

استقلْ يا سعد!

مخيفة فعلاً هذه الحشود اللبنانية! وجميل ومدهش كل هذا الفرح، فرح الأحرار الذين أظهروا معدنهم الحقيقي. من الصعب تقدير حجم المشاركين الحقيقي في ثورة الكرامة، لأنهم ليسوا في مكانٍ واحد وليسوا في توقيت واحد. هم بالتأكيد أكثريات المناطق تحتشد في بيروت المدينة البوصلة، سيدة المدن وقد استردتْ روحها، وفي ساحة النور في طرابلس عروس هذه الثورة التي تحوَّلت ساحة للتلاقي وقد ألبسوها من قبل عباءة قندهار، وفي صور والنبطية وصيدا وجل الديب وجبيل والبترون وبعلبك والهرمل وشتورا و...
ساحات عبارة عن روافد نهر عظيم تتدفق، يحركها جيل ما بعد الانقسام الطائفي ما بين 14 و8 مارس (آذار)، وانضمت إليه الأجيال التي ذاقت مرارة الخيبة من الانقسام السابق، كلها ساحات تؤكد أن لبنان دخل بقوة مرحلة جديدة، وأياً ستكون النتائج الآنيَّة فالبلد ولج مرحلة إعادة التأسيس.
في هذه اللحظة التاريخية، أطلَّ الرئيس عون على اللبنانيين لأول مرة بخطاب ممنتج أقل من عادي، وقد فاتَه أنه يخاطب أحرار لبنان وهم يصنعون في الساحات أعمق ثورة كرامة امتدت شرايينها إلى كل المدن والبلدات والقرى وإلى أبعد الأرياف... وقد وحّد أبناء لبنان وطنهم المشلع وأنجزوا في لحظة التوثب مصالحة تاريخية، طوت لأول مرة صفحة الحرب الأهلية.
لم ينتبه الخطيب أن جل الديب أضاءت الشموع للنبطية، وأن صور عانقت طرابلس، وفاته أن هرمل الكرامة ومدينة الشمس بعلبك التقتا مع جبيل والبترون، وأن أكثر من مليوني ونصف مليون لبناني سحبوا الثقة من كل الطبقة السياسية المتهمة بارتكاب كل الموبقات من أجل تأبيد نظام المحاصصة المذهبي والحزبي المحمي ببندقية الدويلة والأجندة الخارجية التي وضعها للمنطقة نظام ملالي طهران.
وكان لا بد أن يعاود الإطلالة حسن نصر الله الذي بات منذ «تسوية العام 2016» حاكم البلد الفعلي. بنبرة هادئة ولأول مرة خلفه العَلم اللبناني، قال: أنا النظام وأنا الدولة وأنا الأقوى، والعهد خط أحمر وأنه لا انتخابات برلمانية ولا تقصير ولاية، وترك الباب موارباً أمام تجميلٍ ما للوضع الحكومي! شكك بأهداف الثورة وسعى لإفراغها من مضمونها، واتهمها بأنها نتيجة ألاعيب سفارات، وأن أشباحاً خفية تحركها، وأن إسرائيل هي الجهة المستفيدة. وكعادته أعطى نفسه حق فحص دم اللبنانيين، فيما ميليشيات «حزبه» كانت تشن الغارات على المعتصمين السلميين في ساحة رياض الصلح بعد الغزوات التي شُنّت على صور والنبطية وراس العين. وكرر ادّعاءه بأن لديه معلومات ومعطيات، وهي لو كانت لديه لأفصح عنها، لذلك ألحّ وهوّل كي يعرف من حرك كل هؤلاء الناس، ومن ذا الذي يقودهم. وأضاف أنه إذا استمر رفض الدخول في مفاوضات مع الرئيس عون فهذا معناه وجود استهدافٍ سياسي... ولأن الحرب الأهلية تركت بصمات سوداء على كل اللبنانيين، فلم يجد بدّاً من تهديدهم بالحرب الأهلية عندما لم يستطع كظم غيظه من إنجاز أعمق مصالحة بين الناس الذين وحّدهم الجوع ووحّدهم التطاول على كراماتهم.
انتهت الخطب وعادت الساحات تمتلئ لتؤكد كم بات وعي الناس مرتفعاً وهم يدركون أن الإصرار على السلمية سيقوّض العنف المبيّت، وسيحدُّ من حجم الضغوط الموضوعة على الجيش، ويتعمق الفرز بين أكثرية لبنانية من جهة، يقابلها «حزب الله» الذي التحق به تيار رئيس الجمهورية من الجهة الأخرى. وفيما باتت قوى عديدة على الهامش، حتى كتابة هذه السطور، لم يستقل نائب ويعلن التحاقه بالناس... رغم ذلك بات من الصعوبة بمكان وجود إمكانية للالتفاف على الشارع بخطوات تجميلية على ما يروّج له من تعديل حكومي محدود نتيجة تشدد «حزب الله» الذي يعدّ سقوط الحكومة انكساراً له، وآخر ما يهمه وجود حكومة من أصحاب الأكفّ النزيهة، توحي بالثقة للناس وللخارج، ويمكن أن تكون رافعة بنسبة ما أمام ما يرتسم في الأفق من انهيار مريع في سعر صرف الليرة اللبنانية.
اكتمل مشهد الاصطفاف والتباين المريع بين شارع الناس الذي يريد استعادة البلد المخطوف وإحياء قيم الجمهورية، استناداً إلى الدستور، وبين من يرفع الإصبع مهدداً ومتجبراً وخلفه الأتباع المستفيدين من المحاصصة التي كرّستها التسوية في عام 2016... التسوية التي اختصرت الكثير عندما سرّعت التقاء اللبنانيين الذين طووا صفحة الحرب ليواجهوا أهل الحكم والذين وضعوا البلد على مفترقٍ مفخخ بالألغام وسرّعوا خطوات استتباعه لخارجٍ أسود يقيم في كهوف الماضي!
بات التحرك الشعبي اليوم كرة ثلج يستدعي عقلانية من بعض قوى السلطة، المتخبطة في مواقفها، وهي تدرك أن الجهة التي بشرت منذ زمن، بأن بيروت واحدة من العواصم الأربع التي تسيطر عليها إيران، لن تتوانى عن تحويل البلد كرة نار، لأن ملايين اللبنانيين المنتفضين - كما ملايين العراقيين – ليسوا في آخر المطاف سوى «عملاء» تحركهم السفارات لتغطية موقفهم الحقيقي، ألا وهو رفض الوصاية الإيرانية!
إنها اللحظة المناسبة لإعلان استقالة الحكومة وسحب الغطاء عن الدويلة وما تحضره للبنانيين. على سعد الحريري (الذي رفعه إلى الحكم دم رفيق الحريري، الذي أسهم في إخراج الجيش السوري) أن يستقيل، فيمنع بذلك استمرار السلطة التنفيذية ألعوبة بيد «حزب الله»، وإلاّ فسيكون هو نفسه - بوصفه رئيس السلطة التنفيذية - أبرز مسؤول تسبب في أخذ البلد إلى الهاوية!
استقلْ يا سعد! كي يُمنح البلد الفرصة للنهوض وتتاح له إمكانية انتشاله من الغرق.
المواطنون الذين استعادوا الأمل والفرح والبهجة فاجأوا أهل السلطة وحزبها المسلح بثورة لا مركزية وبساحات متضامنة، سيتابعون ثورة الكرامة التي كشفت عن جوهر مواطنينا الذين استرجعوا الوكالة، وقالوا بالفم الملآن: ولّى زمن تزوير الإرادة الشعبية، ووحده الاستماع إلى صوت الناس يمنح البلد فرصة ولو متواضعة.