دال وألف وعين وشين. 4 حروف كبست على فضائنا وسدت الأُفق، فكدنا نسهو عن باقي الأبجدية. وأنا أُحاول كل يوم، منذ أكثر من شهر، أن أحسب عدد المرات التي تتكرر فيها كلمة «داعش» في الصحف، وكل يوم أصل إلى 1000 وأتعب وأتخلى عن المحاولة. إنها في العناوين ومفتتح النشرات، في صحفنا وصحف العالم، وفي قنواتنا وشاشاتهم. مثل «إيبولا»، بل أخطر منه. إن هذا يصيب الأبدان وتلك تضرب العقول.
وصل الأمر إلى الحد الذي راح فيه بعضنا يبحث في المعاجم عن معنى الفعل «دعش يدعش». وطبعا لم يظفر بجواب. دعها لمحافل اللغة العربية التي ترجمت «الساندويتش» إلى «شاطر ومشطور وكامخ بينهما». وفي الأثناء بدأت المطابع تصدر كتبا عن الظاهرة المستفحلة؛ أولها كتاب لمحمود الشناوي صدر في القاهرة بعنوان «خرائط الدم والوهم». ولا شك أن كتبا كثيرة آتية قيد الطبع، بالعربية وغيرها من اللغات. وحتى كاميرات التلفزيون لم تتأخر. لقد دارت لتصوير مسلسل عراقي بعنوان «دولة الخرافة»، يسخر من الدواعش بأُسلوب بالغ الجرأة. وقد مرت عليّ، في الشهر الماضي، قصيدة عمودية بعنوان «داعش» للشاعر العراقي لطيف القصاب، يقول في مطلعها:
«لكل جراح الحزن موتك بلسمُ
بمقتلك العيد السعيد سيقدمُ
وهذا العراق الرعب يغدو حديقة
يُشمّ بها الزيتون بعدك لا الدم».
أي مأساة أن يفرش الإرهاب ظله على عمود الشعر؟
ولعل تلك القصيدة هي الأولى دون أن تكون الأخيرة. فقد قرأت في موقع «كيكا» الأدبي، أمس، قصيدة للشاعر المغربي طه عدنان بعنوان «كابوس فردوسيّ»، جاء فيها: «رأيتُ، فيما يرى الحالِمُ اليَقْظان، مغربيّا من بروكسل، كان يبيعُ الحشيش في ريبوكور قبل أن ينضوي تحت لواء داعش في الغبراء. مِنْ كتابٍ، في يمينهِ تبْرُزُ أعمالٌ جِسام: تَدْميرُ مقامِ النّبي يونُسَ في الموصل، تفجيرُ حسينية شيعية في كركوك، تَرْويعُ نصارى عراقيين في نينوى، إقامة الحدِّ على سارقٍ في حلب، واغتصابُ سبيّتَيْنِ من بناتِ الرّوافضِ العلويين في الرَّقّة».
في الموقع نفسه قصة قصيرة للصديق الكاتب التونسي حسونة المصباحي، عنوانها «بارانويا»، تتحدث عن رجل تنقلب حياته إلى كابوس، بين ليلة وضحاها، فلا زوجته هي تلك المرأة المُحبة المقبلة عليه، ولا ابنته هي تلك الطفلة التي تنتظر عودته من العمل لكي تلقي بنفسها في حضنه وتنال ما أحضره لها من حلوى. وحتى الجيران وزملاء العمل باتوا يتطلعون إليه بعين الشك والنكران ويتحاشون السلام عليه. ماذا جرى لبطل القصة؟ إن العبارات الأُولى منها تكفي للإجابة عن السؤال: «فجأة اكتسحوا كل وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة، حتى إنني شعرت أن أولئك الرجال ذوي السحنات العابسة والجلابيات السوداء الطويلة واللحي الغبراء يلاحقونني طوال الوقت فلا يتركونني في راحة بال أبدا».
أظن أن الداعشيين لا يحبون القصص والأشعار والفنون التي تروّح عن قلوب البشر. وفي مدينة ديالى العراقية وزعوا منشورات تمنع وضع أبيات الشعر الغزلية على زجاج السيارات. وحذّر المنشور المخالفين من «قصاص وخيم». وجاء في الأخبار أنهم اختطفوا سائقا وأحرقوا سيارته لأنه كان يلصق صورة فنانة على زجاجها الخلفي. ومن زار ديالى، مدينة الرمان والبرتقال، يعرف أن هواءها مشبع بأريج زهر الليمون الذي يرفع الهمّ عن القلب، فهل يقطع المتشددون أعناق الشجر لمحاربة عطر القدّاح؟
وصلت «داعش» إلى الأغاني. وهذا تسجيل متداول لفرقة لبنانية تؤدي أغنية بعنوان «مدد يا سيدي البغدادي»، تسخر فيها من تنظيم الدولة التي سيصح فيها ما كان يسجله المؤرخون تحت بند «دول سادت ثم بادت». وهي لن تباد «في يوم في شهر في سنة»، لكن النور في العقول يبقى أقوى من الظلام. وبهذه الروح المتفائلة، أصدر الزميل طه جزاع كتابا بعنوان «ابتسم أنت في بغداد». والكتاب يدعو العراقيين إلى التبسم بدل التجهم، تيمنا بضحكات السياسيين. ففي بلد تضع «داعش» يدها على خناقه، نشرت الصحف صورا لفؤاد معصوم، رئيس الجمهورية الجديد، وهو يستقبل المالكي والنجيفي وعلاوي، ظهروا فيها وهم يضحكون. لكن كاتبا آخر هو حمزة مصطفى، نشر مقالا يرد فيه على الدعوة للابتسام في «بغداد المحروسة»، قائلا إنها صارت «محروثة» بالمفخخات والتفجيرات. ويختم مقاله بنصيحة: «لا تبتسم يا طه... إنهم يضحكون علينا».
9:32 دقيقه
TT
داعش ومدعوش وكامخ بينهما
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
