يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

خلل ما في الاستراتيجية الخارجية لأميركا

من كوريا الشمالية، التي أعلنت توقف الحوار مع أميركا، إلى دولة الملالي التي تحاول جاهدة استغلال حالة الارتباك والفراغ في الإدارة الأميركية، التي تعبر عنها تغريدات الرئيس ترمب على «تويتر»، وصولاً إلى انهيار المفاوضات في أفغانستان، وإلغاء اجتماع سري كان مقرراً في كامب ديفيد، إلى الوضع في شمال سوريا والتحركات التركية التي اعتبرتها «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) أكبر طعنة تلقتها في الظهر، بعد أن غرّد ترمب بقوله «الأكراد قاتلوا معنا، لكنهم حصلوا على مبالغ طائلة وعتاد هائل لفعل ذلك. إنهم يقاتلون تركيا منذ عقود»، مضيفاً: «سيتعين الآن على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد تسوية الوضع».
كل هذه الأحداث المتفرقة يجمعها سياق واحد أن ثمة ارتباكاً وفراغاً ظل حديث مراكز الأبحاث الأميركية وخزّانات التفكير، خلال الأسابيع الماضية، بين من يعتبره يعبر عن «الأنا» المتفردة في السياسة الخارجية لترمب؛ العقيدة الجديدة، كما يصفها براين برينيت في مجلة «التايمز» تحت عنوان ساخر «عقيدة عزيزي أنا» للرئيس ترمب، وبين من يراها خللاً في الاستراتيجية الخارجية لأميركا تجاه معضلات منطقة الشرق الأوسط داخل الحزب الجمهوري، الذي يحتاج إلى «قبضة قوية»، كما نصحهم كولن باول الذي يرى أن ليس ثمة لدى الجمهوريين اليوم أي أوراق رابحة.
ترمب صرّح بأن إلغاء المفاوضات مع «طالبان» جاء بإرادته الشخصية «عقيدة الأنا»، دون استشارة أحد، وحسب براين بريينت هو جزء من مسلسل الخيبات والتحديّات الصعبة لقائمة طويلة من الأزمات المكلفة المقوضة للاستقرار؛ طموح كوريا النووي، وانتهاكات الصين للتجارة الدولية، وصلف دولة الملالي بمحاولة بسط نفوذها عبر وكلائها «الميليشيات المسلحة»، ضمن تحالف أوسع لدول تخوض مشروعات ضد الاستقرار ما بعد انهيار سردية «الربيع العربي»؛ تركيا وقطر، ومحاولتهما بوقاحة تجاوزت كل المعايير الدبلوماسية، واحترام سيادة الدول، بعث «الإخوان» في مصر، ولو من خلال الفضاء الرقمي الذي يعيش خريفاً موحشاً ينتعش على مستوى الأرقام، لكنه يفشل تماماً على مستوى المضمون والمحتوى، معتمداً على ما يعرف في التسويق السياسي بـ«الفاكهة المحرمة»؛ نشر الأكاذيب والتضليل الإعلامي، وتبني أصوات نشاز ومحتوى بصري ملفق ومغرض يحاول بناء واقع افتراضي مشوش، بعد أن قامت الحكومة المصرية ببناء سد عالٍ من الواقعية في التعامل مع الأزمة عبر حزمة من الاستراتيجية الأمنية والمؤسساتية، لكنها للأسف لم يشفعها أداء احترافي عدا استثناءات قليلة على مستوى الإعلام الذي يعبر عن تحولات النظام المصري، وهو ما فتح الأبواب لمعارك غير أخلاقية تذكرنا بغزوات الصناديق لـ«الإخوان»، التي تحولت إلى: حي على الهاشتاغ اليوم.
عوداً إلى عقيدة «الأنا» لترمب، فهي وإن كانت مربكة، لكنها ستعيد النظر بالنسبة لحلفائها في المنطقة، إلى التفكير في مبادرات سياسية لا تلتفت إلى الدعوات العنترية في التعامل مع تحديات الحرب التي يكتفي ترمب بالتلويح بها، ولعل مقابلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد أكدت أن المعركة ليست معركة السعودية، بل العالم كله، الذي يتم تهديده في أهم مقومات بنائه الاقتصادية؛ الممرات الآمنة للنفط والتجارة الدولية، وضرورة تدخل كل الأطراف الدولية، مع تأكيد أن الحرب، وإن كانت الخيار الأسوأ الأخير، ليست خيار السعودية الأول.
دولة الملالي تدرك حالة الفراغ واللايقين عند ترمب، لذلك تقوم بإنتاج خطاب دبلوماسي مزدوج محاولة مد اليد للسعودية والخليج بالدعوة إلى الحوار، مع تكليف أذرعها الميليشيوية، خصوصاً الفاعلة منها؛ الحوثيين في اليمن، بضبط سلوكها على الإيقاع نفسه من طهران، وهو ما حدا بالأمير محمد بن سلمان إلى أن يكون صريحاً في أن أولوية السعودية هي إنهاء الحرب، لكن بشرط أن يتحول الحوثيون إلى مكون سياسي وطرف سلمي يقف على قدم المساواة مع الأحزاب السياسية، مع اعترافه بالمكون الأساسي، وهو الشرعية اليمنية، التي أيضاً بحاجة، كما النخبة السياسية اليمنية، إلى إعادة النظر في رؤيتها بعيداً عن ترحيل أزمتها في النظر إلى جذر المعضلة إلى إطلاق التصريحات المرتجلة حول التحالف كردة فعل، إلى تصريحات تطلق من الأطراف الفاعلة في الجنوب التي هي الوجه الآخر من أزمة النخب السياسية اليمنية.
الصورة المكبّرة للمنطقة اليوم أن التحديات باتت أكبر مع تجدد الاستهداف لاستقرارها عبر أطراف متعددة معتمدة على حالة استغلال الفراغ المديد، الذي وإن كان يعبر عن الولايات المتحدة، إلا أنه كذلك يعكس ضرورة العمل من قبل دول الاعتدال بقيادة المملكة على «التكاملية» في استراتيجية السياسة الخارجية، فالاستهداف الممنهج العابر للحدود يطرح تحدي التحالف الشامل في دول الاعتدال من خلال المواقف المتحدة والشراكات الجديدة.
ولعل خطوة التعاون السعودي السوداني، وبادرة حسن النيّة المصرية مع السودان بتسليم عناصر على ذمة قضايا أمنية، بداية موفقة لتوحيد المواقف، لا سيما بعد تحول أسلحة المتاجرين بالشعارات إلى مجرد هاشتاغات مدفوعة!