ليونيد بيرشيدسكي
TT

الأوروبيون يرغبون من اتحادهم التصرف كقوة عظمى

وعدت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية المنتخبة، بإدارة «مفوضية جيوسياسية» على مدار السنوات الخمس المقبلة. وكشفت دراسة صدرت في وقت قريب عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤسسة فكرية دولية، أن هذا تحديداً ما يرغبه الأوروبيون أيضاً، لكن رؤية فون دير لاين إزاء الدور العالمي للاتحاد الأوروبي لا تتوافق بالضرورة مع رؤية الأوروبيين.
ويأتي وصف فون دير لاين لمهمتها بمثابة بناء على الفكرة التي طرحها سلفها جان كلود يونكر حول «مفوضية سياسية» تعكس الإدارة الديمقراطية للمواطنين الأوروبيين، وليس السياسات المفضلة لدى نخبة غير منتخبة من المسؤولين في بروكسل. إلا أن الرئيسة المنتخبة لا يمكنها إطلاق الوعد ذاته تماماً؛ فعلى أي حال نالت فون دير لاين تعيينها في هذا المنصب عبر اتفاقات جرت بين قيادات وطنية في غرف خلفية، وليس من خلال أي عملية ديمقراطية. أما ما تطرحه فون دير لاين بدلاً عن ذلك فهو إدارة المفوضية الأوروبية التي تتولى مسؤولية صناعة السياسات ووضع التنظيمات على مستوى الاتحاد الأوروبي، باعتبارها واجهة موحدة تمثل أوروبا أمام العالم.
وأثناء إعلانها عن المفوضين المعينين في وقت سابق من الأسبوع، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أنه «سيتولى هذا الفريق صياغة الأسلوب الأوروبي، وسنتخذ خطوات جريئة في مواجهة التغييرات المناخية، وسنبني شراكتنا مع الولايات المتحدة، ونحدد شكل علاقتنا مع الصين التي تزداد قوة، وسنحرص على أن نكون جيراناً جديرين بالاعتماد عليهم، أمام أفريقيا، مثلاً».
ويبدو أن هدف صياغة دور الاتحاد الأوروبي في العالم متناغم مع ما يرغب فيه الأوروبيون من الاتحاد. هذا العام، كلف مجلس العلاقات الخارجية، مؤسسة «يوغوف» المعنية باستطلاعات الرأي، بإجراء مسح لما يزيد على 60.000 شخص بمختلف أرجاء الاتحاد الأوروبي، وخلص المسح إلى وجود «دعم شعبي واسع لفكرة تحول الاتحاد الأوروبي إلى عامل فاعل ومتناغم على الساحة العالمية»، تبعاً لما ذكرته سوسي دينيسون، الزميلة البارزة لدى المجلس. إلا أن دينيسون أضافت أن المسح كشف كذلك عن «فجوة متواجدة بين الرأي العام والمعنيين بالسياسات الخارجية بخصوص عدد من القضايا المحورية، تتنوع بين التجارة والعلاقات عبر الأطلسية، وصولاً إلى توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي».
ومثلما يتضح من تعليقات فون دير لاين، فإنها تتبع وجهة نظر تقليدية إزاء كون الولايات المتحدة حليفة لأوروبا، وأن القوة المتنامية للصين تشكل مصدراً للقلق، إن لم تكن تهديداً. إلا أن المسح الذي أجراه مجلس العلاقات الخارجية يشير إلى أن وجهة النظر السائدة بين الناخبين في أوروبا تدور حول فكرة أن الولايات المتحدة والصين تمثلان خصمين جيوسياسيين للاتحاد الأوروبي.
وحال تفكك الاتحاد الأوروبي، ستكون الخسارة الكبرى لمن يعيشون داخل الدول الأعضاء، ولقدرتهم على العمل كقوة واحدة بحجم قارة قادرة على منافسة الولايات المتحدة والصين وروسيا.
وربما يكون الكشف الأكبر الذي خلص إليه المسح، بالنظر إلى أن جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي ما عدا خمسة أعضاء كذلك في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، هو أن أوروبا لا تدعم بالضرورة الولايات المتحدة في خضم المنافسات التي تخوضها، وثمة تفضيل واضح في أوساط الأوروبيين للحيادية، حتى في دولة مثل بولندا، حيث تحظى الولايات المتحدة بشعبية واسعة.
ومن الواضح أن الأوروبيين أكثر تأييداً للولايات المتحدة عن تأييدهم للصين أو روسيا. وثمة تأييد واسع في كل مكان لاستمرار العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. وداخل كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي التي أجري بها المسح، أعرب الناخبون عن اعتقادهم بأن الاتحاد الأوروبي أو الحكومة الوطنية أو كلاهما يتعين عليهما بذل مزيد من الجهود لحماية المصالح الاقتصادية للبلاد في مواجهة الصين.
إلا أن الرغبة الحثيثة في اتخاذ موقف حيادي تكشف أن النزعات الانعزالية للرئيس دونالد ترمب لها ما يبررها، وأن «الناتو» لا يشكل بالضرورة إطار العمل الصحيح الذي يتعين بناء علاقة الولايات المتحدة وأوروبا عليه.
على الجانب الآخر، نجد أنه فيما يخص فون دير لاين، فإن هذا يعني مزيداً من الدعم الشعبي عن المستوى المعتاد لمزيد من التعاون الدفاعي والأمني بين دول الاتحاد الأوروبي. كانت مثل تلك المشروعات قد جابهت صعوبة في الانطلاق تحت قيادة يونكر، ولا يبدو أن هيكل المفوضية يولي أهمية كبيرة لها، بل ولا يوجد لدى المفوضية التي تترأسها فون دير لاين حقيبة أمنية منفصلة.
ويكشف المسح أنه داخل جميع الدول المشاركة فيما عدا فرنسا، تعتقد الأغلبية أن حكومتها ستبلي بلاء أفضل في تمثيل المصالح الاقتصادية الوطنية عن الاتحاد الأوروبي. أما فرنسا، تعتقد الأغلبية أن كلتا المؤسستين ستمثلان هذه المصالح على النحو الأمثل. وينبغي أن يشكل هذا مؤشراً مثيراً للقلق أمام فون دير لاين، وداخل المفوضية التي تترأسها لم تزد الحقيبة التجارية من حيث الأهمية مقارنة بما كان عليه الحال في عهد قيادة يونكر للمفوضية. وإذا فكرت الرئيسة الجديدة للمفوضية على نحو جيوسياسي، فإنه سيكون من الحكمة تعيين نائب لها ليمثل أوروبا في حقبة حروب تجارية وانحسار منظمة التجارة العالمية.
ويبدو أن فون دير لاين تبلي بلاء أفضل على صعيد نقاط أخرى من الأجندة الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، ترى الغالبية عبر أرجاء الاتحاد الأوروبي التغييرات المناخية باعتبارها تحدياً كبيراً، وقد رفعت فون دير لاين هذه القضية إلى رأس أجندتها.
ويبدو تعيين ممثل المجر لازلو تروكساني مسؤولاً عن ملف توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي منطقياً، ذلك أن الأغلبية داخل الدول الأكثر ثراءً من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا، تعارض انضمام صربيا ودول أخرى من غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الـ10 المقبلة. إلا أن هذا التوسع يحظى بشعبية أكبر بكثير في جنوب وشرق أوروبا. وتكشف استطلاعات الرأي أن 55 في المائة من أبناء المجر يرون أنه ينبغي انضمام جميع أو بعض دول غرب البلقان إلى الاتحاد خلال العقد المقبل.
ومع هذا، فإنه بصورة عامة يتعين على رئيس مفوضية جيوسياسية بالمعنى الحقيقي توضيحاً بدرجة أكبر مما تفعله فون دير لاين بأن الاتحاد الأوروبي يسعى وراء نمط السيادة الاستراتيجية الذي تؤكد عليها عناصر أخرى كبرى، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، على نحو متزايد دون الاهتمام بمصالح الآخرين. في هذا الصدد، أكدت دينيسون أن «القيادة الجديدة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي الآن يتعين عليها اتخاذ قرارات شجاعة وقبول - مثلما يرغب الناخبون - أن العالم قد تغير».
التأكيد على هذا القبول والدفاع بقوة وفاعلية أكبر عن مصالح أوروبا المتميزة من الممكن أن يسهم على المدى البعيد في بناء اتحاد أوروبي أقوى وأكثر جاذبية للناخبين. وخلال السنوات الخمس القادمة، يعود إلى فون دير لاين الاختيار ما بين الفوز بمصداقية إضافية، أو إهدار الفرصة لتحقيق ذلك.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»