عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الحرب الأهلية البريطانية

«التقاليد ليست تقديس الرماد بل الاحتفاظ باللهب متوهجاً» عن الموسيقار الألماني غوستاف ماهلر (1860 - 1911) بتصرف؛ فالمجتمع كالشجرة، جذورها التقاليد، والجذع يربطها بالحاضر، أي الأغصان المورقة نحو ثمار المستقبل.
مساء الاثنين، كان الحاضر قبيحاً يخنق الجذور في أسوأ ما شاهدته في وستمنستر طوال نصف قرن من تغطيتي الصحافية.
مجلس العموم تشابه بفوضى مدرجات كرة القدم، خصوصاً نواب «الحزب القومي الأسكوتلندي» يصفقون وينشدون شعارات الانفصال عن المملكة المتحدة، ونافسهم نواب إمارة ويلز بنشيد انفصالي آخر، بينما رفع يساريو حزب العمال لافتات احتجاج كتلاميذ مدرسة المشاغبين.
في خروج عن التقاليد البرلمانية، الرئيس «المحايد» جون بيركو، لم يصح في النواب المشاغبين «النظام... النظام»، كما اعتاد مشاهدو قناة تلفزيون البرلمان سماعه، ليأمرهم بالانضباط، بل كان يلوح ليلتها مبتسماً معتبراً أن «الهتافين» يؤيدون تحركه ضد الحكومة.
الأمر محير، بل يثير القلق دستورياً، في قول السير برنارد جنكيكن، رئيس اللجنة البرلمانية لشؤون السلك الإداري للدولة. فرئيس البرلمان، في ديمقراطية فصل السلطات البريطانية، يشترط فيه الحياد التام بخلاف الأنظمة الجمهورية، كالولايات المتحدة مثلاً، ورئيس الكونغرس دائماً من حزب الأغلبية.
بدأ الشغب أثناء مراسم تقليد إنهاء الدورة البرلمانية الأولى (بدأت في يوليو/ تموز 2016 لتكون الأطول منذ الحرب الأهلية في القرن السابع عشر)، لتضيف عطلة مؤتمرات الأحزاب (10 سبتمبر/ أيلول إلى الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول) إلى فترة «التأجيل» (من 8 إلى 13 أكتوبر) الضرورية لفصلها عن دورة جديدة تفتتحها الملكة في الـ14 من الشهر المقبل.
انسحب نواب حكومة المحافظين في هدوء متجاهلين الإهانات من صفوف المعارضة.
تقليدياً يتقدم حامل «الصولجان الأسود»، الممثل لسلطة التاج في مجلس اللوردات، موكب رسل الملكة لتوصيل أمر رفع البرلمان لرئيس المجلس؛ لحظة دخول الموكب صعق البعض من إشارة يد نائبة أسكوتلندية بحركة إهانة جنسية بذيئة يتعرض المراهقون للعقاب المدرسي لتبادلها.
منع المشاغبون، رئيس الجلسة، من الالتحاق بموكب «الصولجان الأسود»، وتقليد رفع «الصولجان الذهبي» من قاعة العموم لإعادته لمكانه عند بدء الدورة الجديدة، فوجوده يضفي شرعية التاج على المجلس.
مشاهد الشغب لم تسئ إلى سمعة «أم البرلمانات» فحسب، بل أهانت الأمة البريطانية على يد نحو مائتين (من أصل 650 نائباً) يفترض تمثيلهم الشعب الذي غالباً ما سيحاسبهم بقسوة في الانتخابات التي تعطل المعارضة إجراءها خشية هزيمتها أمام شعبية حكومة جونسون.
المشاهد القبيحة في وستمنستر، التي فاجأت بلداً محافظاً كبريطانيا، كنا توقعناها كمعلقين برلمانيين منذ بدأ رئيس البرلمان بيركو الخروج عن التقاليد. برلمان وستمنستر مثل مكتبة كلاسيكية يعلو أرففها التراب ولا يجرؤ القارئ على الهمس في قاعتها، مقارنة بالصياح والانفعالات العاطفية في برلمانات كإيطاليا وإسبانيا مثلاً.
كثيرون يعزون سبب انحدار المستوى إلى «تحديثات» رئيس المجلس بيركو التي خرقت التقاليد.
الوصف «رئيس برلمان» لا يكفي لشرح نفوذ المنصب، وصلاحيته، في وستمنستر، كمؤسسة بإدارة كاملة وعاملين وسكرتارية ومتحدث رسمي ومكتب صحافي وعلاقات عامة وموقع على الإنترنت. الكلمة الأصلية (speaker) تعني «صاحب الصلاحية الأوحد» في منح الكلمة أو منعها، وهو المدير الفعلي للبرلمان، ولا توجد آلية لمحاسبته.
المنصب يعود إلى 1258 عندما عقد البرلمان في أكسفورد، وأول من شغله بيتر دي مونتفورت (1205 - 1265)، وعرف وقتها بـ«prolocutor» أو «رئيس المرافعات».
أما المنصب في شكله الحديث في وستمنستر، فبدأ 1376، وشغله السير بيتر دي لا مير (توفي 1387 ولا يعرف تاريخ ميلاده) وتصادم مع الملك إدوارد الثالث (1312 - 1377) الذي طور العسكرية البريطانية وبدأ تحديث الدولة. ثارت الناس أو العموم، الذي سمي المجلس باسمهم، ضد دي لامير. وفي العام التالي اتفق القصر (مستشارو الملك الشاب ريتشارد الثاني 1367 - 1400) والمجلس على اختيار توماس هنغرفورد (توفي 1412) رئيساً، وبدأ إرساء تقاليد علاقته بالسلطات الأخرى والنواب، ووسع صلاحياته كمدير عموم البرلمان. ولم يبدأ تقليد انتخاب النواب للرئيس إلا مع السير جون تشيني (توفي 1414) في 1399 الذي قوى من استقلال ونفوذ مجلس العموم لدرجة شكوى كبير أساقفة الكنيسة (وكانت كاثوليكية تابعة للفاتيكان) للملك هنري الرابع (1367 - 1413) من تنامي سلطة رئيس المجلس وتهديده للسلام الاجتماعي. لكن ظل النواب، واقعياً، يلتزمون بتوجيهات القصر في اختيار رئيس المجلس. أما مواجهة 1642 لرئيس البرلمان ويليام لينتهول (1591 - 1662) مع تشارلز الأول (1600 - 1649) برفضه تسليم خمسة نواب أراد اعتقالهم فكانت بداية الحرب الأهلية الإنجليزية (1642 - 1651).
الفصل الدستوري بين رئيس المجلس والحكومة التنفيذية بدأ بتأسيس منصب رئيس الوزراء في 1721. وتكرر الصراع حتى اليوم. رئيس المجلس بيركو، في محاضرة يوم الخميس، توعد حكومة جونسون باستخدام صلاحياته لمنعها من تنفيذ تعهدها للناخب بالخروج من الاتحاد الأوروبي في آخر الشهر المقبل.
رئيس المجلس يفترض أن يكون محايداً لا يصوت لأية قرارات إلا في حالة استثنائية عندما تتساوى الأصوات في قرار مصيري، كعام 1993 عندما تساوت الأصوات حول التصديق على «معاهدة ماستريخت» فمنحت رئيسة المجلس الليدي بيتي بوثرويد، صوتها للمعاهدة مخضعة المملكة لقوانين مفوضية بروكسل.
حذر التقليديون منذ 2010 من تساهل بيركو مع خرق التقاليد وآداب البرلمان بتصفيق نواب الحزب القومي الأسكوتلندي وهتافاتهم. والتدهور في هيبة المنصب ووقاره بتخليه عن «باروكة» الشعر المستعار وروب المحاماة من القرن الثامن عشر. ولم يكتف بأمر الكتبة بخلع الشعر المستعار والزي التقليدي، بل ضرب باستشاراتهم عرض الحائط عندما نبهوه إلى خرقه للوائح والإجرائيات. منصب كاتب المجلس يعود إلى 1363 وشاغله الحالي هو الرابع والخمسون فقط، ما يبين الاستمرارية والاستقرار، فالكتبة هم حافظو اللوائح والقوانين التي خرقها بيركو. بجانب ضياع الوقار والتصفيق، تساهل الرئيس مع نواب حضروا بلا ربطة عنق، وسمح لنائبة بإرضاع وليدها داخل الجلسة.
مواجهة ليندينهول مع تشارلز الأول في 1642 كانت انحيازاً للشعب، مصدر كل السلطات، بعكس المواجهة التي يفتعلها بيركو اليوم ليمنع الحكومة من تنفيذ إرادة الشعب الذي بدأ يفقد ثقته في ممثليه في برلمان فقد هيبته واحترامه على يد رئيس بدأ الانحدار نحو الهاوية بتخليه عن تقاليد قرون طويلة، ويسعى إلى حرب أهلية بأسلحة القرن الحادي والعشرين، الصحافة والمحاكم.