فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

طريدة رئاسية و26 صياداً

يحتار المرء في هذه الحالة الرئاسية التي تعيشها تونس. هل هي جزء من نهوض مغاربي لم يكتمل فصولاً أم هي احتفالية صيد للطريدة الرئاسية تكاثر عدد القناصين لها؛ إذ وصل الرقم إلى 26 يمثلون كل الأطياف التونسية من علمانية ودينية. ومن ضمن المشاركين في هذا «الماراثون» سيدتان لا يبدو تطلُّعهما إلى الترؤس أمراً مستغرباً في بلد تتفاعل فيه الثقافات وإلى درجة أن التونسي مسكون بأوروبيته بمقدار اعتزازه بعروبته وإسلاميته.
من حيث المقارنة بالذي عاشته تونس رئاسياً في زمن مضى يمكن القول إن الحالة الرئاسية الجديدة هي التي ستؤسس لدولة مستقرة يستعيد فيها الحُكْم التوازن الذي لطالما عاش نوازع رئاسية متنوعة، من بينها النازع البورقيبي الذي أسس ظاهرة الرئاسة الأبدية، وإن كانت لم تلق التنفيذ، واكتفى بالثلاثين سنة التي أمضاها رئيساً جامعاً التوانسة حوله على مدى عقديْن ثم بدأ الإجماع يتفكك مع دخول الخصوصيات العائلية في العموميات الرسمية. وبسبب ذلك التداخل بين العائلي والرسمي وعدم ارتياح العامة إلى ممارسات الخاصة نشأت ونمت بالتدرج ظاهرة الرئاسة الأبدية، حيث نصَّب بورقيبة نفسه أو نصّبوه رئيساً مدى الحياة، وهي فكرة استهوت الجانب العائلي الخاص في البيت الرئاسي المصري، وكاد يأخذ بها الرئيس حسني مبارك وكان رفاق الرئيس (الراحل) محمد مرسي يخططون لها مِن بعده.
كما استهوت وبالظروف والدواعي نفسها البيت الرئاسي السوداني، وكاد يأخذ بها الرئيس عمر البشير لولا أن الانتفاضة المدنية مضافة إليها نكهة عسكرية عصفت بـ«النظام الإنقاذي» وجعلته منقلعاً (على حد التوصيف الرسمي لخلعه) ثم في قفص المحكمة. واللافت أن الاثنين البشير بعد مبارك لم يعتبرا بالذي جرى لمَن زرع ظاهرة الرئاسة مدى الحياة، وكيف أن الجنرال الطموح زين العابدين بن علي انقض على الرئيس بورقيبة ونقَلَه من قمة السلطة إلى دائرة التناسي بالتدرج. ثم دفع بن علي الثمن لأنه كان يروم رئاسة تكون على الأقل أكثر طولاً مما يتحمله المزاج الشعبي وقد تؤسس للرئاسة التي تمنوها أو أرادوها لبورقيبة. لكن انتفاضة التوانسة الراصدين والمكتوين من طول بقاء الرئيس في سدة الحُكْم عطَّلت له أحلامه. واللجوء يبقى أخف معاناة من كرسي الاعتراف في جلسات المحكمة ثم في الأحكام التي تُصدرها.
إذا كانت ظاهرة الرئاسة الأبدية، وإن لم تتحقق ولا نظن أن لها فرصة حتى بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيِّب إردوغان منافس النظام الثوري الإيراني في تطويل اليد الممدودة واللسان العلقمي بين الحين والآخر، والتحرش المؤذي في أحوال شعوب دول خارج الحدود وحكومات تبدو لافتة وموضع استغراب، فإن هذه «الهجمة» من الصيادين على الطريدة الرئاسية التونسية تثير الاستغراب كونها غير مسبوقة في أي جمهورية عربية.
فالمألوف هو أن يكون هنالك مرشح في الحد الأدنى (على نحو التوافق المسبق من جانب صانعي الرئاسة في لبنان وهم أميركا والبطريرك الماروني ثم المرجعيات الإسلامية بتنوع طوائفها، وهذا كان قبل أن يختصر «حزب الله» هذه الطوائف في «مقاومة» بنسبة ملحوظة) وثلاثة في الحد الأقصى كما في مصر بعد إزالة عهد مبارك خلافاً لتوليفة الرئاسات بالاستفتاء، أو حتى يكون هنالك ترتيب مسبق بين الرئيس المنتهية ولايته وبين مَن يختاره أو يزكيه لكي يكون الرئيس من بعده ينافسه مرشح أو اثنان. هذا حدث في موريتانيا الشقيقة المغاربية لتونس، وانتهى الأمر على أهدأ حال. وهذا كان يتطلع إليه قبل أن يسوء وضعه الصحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ثم تتطور الأمور بفعل انتفاضة شعبية أكثر حدة من الانتفاضة التونسية وقريبة الشبه بالانتفاضة السودانية، وينتهي الرئيس في عزلة مفروضة عليه وتبقى الجزائر من دون رئيس إلى أن تنضج معادلة كتلك التي حدثت في السودان، وبذلك وضعت الانتفاضة صولاتها وجولاتها، وأثمرت إلى المجلس السيادي حكومة رأي عام وحصة نسائية غير مسبوق حدوثها في المجلس وفي الحكومة.
ما أن استقر التشاور على ضرورة إجراء انتخابات رئاسية تأتي بعهد يبدأ من حيث انتهى عهد الباجي قايد السبسي حتى حدث ما لم يكن متوقعاً حدوثه. كل حزب يريد الرئاسة له. وحيث إن الأحزاب في تونس كثيرة، وإن الشخصيات المستقلة والفاعلة في المجتمع التونسي تتطلع إلى خوض التجربة الرئاسية؛ لذا كان هذا الكم من المرشحين للرئاسة وهو رقم قياسي لم يسبق تسجيله في أي جمهورية عربية بدءاً بلبنان التوأم الديمقراطي والحزبي والمتوسطي والليبرالي والديني لتونس، مروراً بسائر الجمهوريات العربية.
هل إن النظام الجمهوري هان لدرجة أن خوض الغمار للترؤس مسألة مزاجية، بمعنى هنالك حزب يستقطب أعداداً من المواطنين وما دام هنالك سباق رئاسي فلماذا لا يخوضه.
وعندما ستنتهي عملية الاقتراع وتذاع النتائج وتكون الفوارق مدعاة تندُّر، هل ستتكرر هذه العملية أم هل أن صحوة ستنشأ بفعل الصدمة أو حتى بفعل التعمق في تحليل التجربة، ستحمل الأحزاب على أن تأخذ بصيغة الاندماج بحيث يكون هناك حزبان أو ثلاثة على الأكثر تتنافس على مراكز القيادة في الدولة، وتترك بذلك انطباعاً بأن هنالك جدية، وأن للديمقراطية قواعد ومفاهيم تتجاوز مسألة أن المناسبات، ومنها انتخابات رئاسة الدولة هي نوع من التباهي بحيث يقال هذا المرشح لرئاسة الجمهورية يستحق أو لا يستحق، يفوز أو لا يفوز. المسألة ليست هكذا وإنما فقط القول بأنه مرشح رئاسي.
وعندما تخاض معركة الرئاسة بمرشح عن حزب مقابل مرشح حزب آخر، أو حتى هنالك مرشح عن حزب ثالث تكتسب المسألة الجدية وهذا أمر مطلوب، أما عدا ذلك وعلى نحو ما انفردت به تونس فإن ما حصل هو أن الرئاسة مجرد طريدة يتعقبها 24 صياداً وصيادتان. ومثل هذا الأمر كان يحتاج إلى الكثير من التنبه لكي تحظى رئاسة جمهورية العهد الجديد في تونس بالجدية، ويكون خامس رؤساء جمهورية تونس منذ إعلان استقلالها يوم 25 يوليو (تموز) 1957 وحتى يوم إعلان رئيسها الخامس أواخر هذا الشهر (سبتمبر/أيلول 2019) بعد بورقيبة الذي كاد يعمِّر رئاسياً، وبن علي الذي كان يخالجه الأمر نفسه، وفؤاد المبزع العابر رئاسة بسلام، والمنصف المرزوقي.
ليبدأ ماراثون الطريدة الرئاسية والصيادون الستة والعشرون.
ويبقى أنه عندما يتحقق المبتغى في تونس وتستعيد الخضراء لونها، فإن الجار الليبي وقبْله الجار الجزائري سيتأمل ويأمل. وكان سبقه الجار الموريتاني. وفي المسيرة المغاربية عموماً ليس هنالك توق بمثل ما هو عليه توق شعوبها إلى حقبة من الاستقرار. حقَّق الله الآمال.