جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

العام المقبل... بحذر

خرجتُ من متابعتي لأعمال وأجواء وأصداء مؤتمر بيارتز للدول السبع الديمقراطية، بانطباعات متعددة، سجلت القليل جداً منها في مواقع إعلامية أخرى أثناء انعقاد المؤتمر. لم أخف وقتها قلقي الشديد على مستقبل الأمن والاستقرار في عالم الغد القريب. كان مؤتمراً غريباً؛ غريباً فيما توقعه منه المشاركون قبل أن يبدأ. حضرت مؤتمرات دولية وإقليمية كثيرة. قليلة جداً كانت تلك التي بدأت أعمالها بقرار عن النية في عدم إصدار بيان نهائي. كنت، أنا نفسي، شاهداً في مؤتمرات إقليمية على خشية الوفود المشاركة من احتمال انفضاض المؤتمر قبل أوان انفراطه، بسبب تصرفات زعيم من الزعماء الحاضرين. كان العقيد معمر القذافي، رحمه الله، المصدر الرئيس وراء تخريب مؤتمرات حضرتها، إما لأسلوبه الفريد في التخاطب، أو لرؤيته الخاصة جداً لكل ما يعرض من موضوعات، أو لتقدير للذات مبالغ فيه للغاية، أو لتعمده الإساءة لمكانة وهيبة زملائه من الزعماء. لم يكن مألوفاً في دنيا المؤتمرات أن يجلس رئيس دولة عضو في مؤتمر وظهره إلى القاعة يدخن سيجارة، أو يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع، كلها إشارات واضحة إلى عدم الاكتراث بالمؤتمر ونقص التقدير للآخرين.
لم أقصد المقارنة بين رئيسين، معمر القذافي، رحمه الله، والرئيس دونالد ترمب. إنما قصدت في الحقيقة فتح باب المقارنة بين عهدين يمهد كل منهما بسلوكيات أطرافه، وطبيعة تطوره، إلى عهد جديد قادم مختلف جذرياً عن القائم. هنا في هذه المنطقة كان النظام السياسي العربي يتعرض لاختلالات شديدة، ويفقد عنصراً بعد الآخر من عناصر شرعية وجوده. وهناك في بياريتز بفرنسا وقبلها في كيبيك بكندا وقبلهما في تاورمينا بصقلية بات صارخ الوضوح أن النظام الاقتصادي العالمي لم يعد يتحمل أي تجميلات أو إصلاح، إنما يحتاج إلى تغيير في المحتوى والمؤسسات والهياكل وأساليب العمل، وربما أيضاً لغة الخطاب وسلوكيات التخاطب.
لم تكن تصرفات الرئيس القذافي ودبلوماسيته الإقليمية العنصر الكاشف الأوحد في رحلة اكتشاف الحال المتدهور للنظام العربي. سبقتها حربان وصلح مع إسرائيل وانفراط العرب. لحقت بها كلها وغيرها تحولات في أنماط القيادة في العمل الجماعي العربي حتى نشبت «ثورات الربيع». هذه الثورات مع الاختلافات البينة بينها أكدت بمسيراتها ونهاياتها أن لا جدوى ترجى من استمرار أو عودة عهد إقليمي قديم بإصلاح أو بغيره. أكدت في الوقت نفسه أن لا أمل ملموساً في دوافع تحثنا على التطلع لتغيير قريب في توازن إقليمي للقوى «صحي» وسليم يمهد لمستقبل يسود فيه سلام ورخاء واستقرار.
هناك، في الغرب، وقعت الصدمة الأولى بحرب نشبت في الشرق الأوسط، سميت حرب أكتوبر (تشرين الأول)، أسقطت الإيمان الراسخ بديمومة أمن وسلامة واردات النفط وعائداته. نبهت أيضاً إلى ضرورة وضع استراتيجية جديدة لتخزينه وإدارة أمن منابعه، وأهم من كل هذا صنع آلية جديدة مهمتها الحفاظ على أهلية الغرب في قيادة النظام الاقتصادي العالمي والنظام الدولي بشكل عام. هكذا نشأت قمة الست دول الديمقراطية والصناعية الكبرى لتصير في العام التالي، وبانضمام كندا، قمة السبع، ثم تصبح قمة السبع + 1 بدعوة بوريس يلتسين في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي للانضمام إلى جلسات المجموعة. إلى هنا أدى الهبوط السوفياتي بكفاءة هائلة وظيفة إخفاء نقاط الضعف في القوة الأميركية. بعدها ظهرت العيوب للخارج والداخل، على حد سواء، ودفعت، وأقصد العيوب، مع الصعود المتدرج للصين كقوة اقتصادية، الرئيس باراك أوباما، إلى التفكير في ضرورة وقف التمدد الأميركي في الخارج، والانتباه لحال انحدار الغرب نسبياً بالمقارنة بحال صعود الصين وغيرها من قوى آسيا. لم تكن لأوباما شعبية واسعة لدى الطبقة الحاكمة في أوروبا، ولم يكن مغرماً بحلف الأطلسي، وفي أواخر عهده تأكد بالدليل القاطع المدى الذي تدنى إليه الهبوط الغربي، خصوصاً الانحدار الأميركي.
بعده جاء دونالد ترمب، جاء من حيث لا يدري أهل الحكم في الولايات المتحدة. هو ليس منهم ولا ينتسب لعائلة أرستقراطية أو قبيلة سياسية معروفة. جاء واثقاً بنفسه وقدراته وفساد الآخرين، وضعفهم، ومزوداً كما يدعي برسالة إلهية، ومعززاً بالنية في ألا يترك منصبه إلا وقد أعاد إلى أميركا عظمتها، وخسف الأرض بخصومها في الخارج، ومنع الصين من مواصلة الصعود مهما كلفه هذا المنع. وبالفعل سلك مسالك في الدبلوماسية غير معهودة، واختار لخطابه السياسي أساليب تعبير متغيرة وأفكاراً متناقضة. أجبر أقرانه من زعماء العالم كافة على ألا يتوقعوا منه الثبات على موقف في لقاءين متتاليين وأحياناً كثيرة في اللقاء الواحد. استدرج «الميديا» العالمية باستمرار حثها على كرهه. استدرجها تابعة ومتوسلة وخاضعة لأهوائه المتناقضة والمفاجئة، وبتحريضها على إدمان تغريداته وتحرشه بحكام الدول والمؤسسات الدولية، خصوصاً تلك التي يكرهها مثل منظمتي التجارة والمناخ. لم يستخدم ضدها القمع، لم يعتقل صحافياً واحداً، ولم يحاول سوى مرة واحدة وعاد عنها قبل أن يستكملها. عرف كيف يحرك غضب أقوى الصحف والقنوات، لينصب عليه الغضب، وليس على أحد آخر معه، أو قضية يمكن أن تشغل عنه الرأي العام.
قضيت وقتاً رائعاً ومثيراً خلال متابعتي مؤتمر السبع، أرصد ما خطط ليعلنه بلسانه وما فلت منه ربما بغير نية مسبقة. اعترف الرئيس، وهو أهم الرؤساء الحاضرين ثقلاً ومسؤوليةً، بأنه يتعمد الخطابات المتناقضة كأسلوب مفضل للتفاوض، ولن يختار غيره. بمعنى آخر الرجل لا يعني بالضرورة ما يقول، وآراؤه في غيره من الأقران والزعماء لا يمكن أخذها بجدية، أو يعتمد عليها في تقييم درجة الصداقة أو التحالف، أو حتى العداء والخصام. قال في رئيس كوريا الشمالية أسوأ ما يقال عن مجرمي الشارع في مدينة نيويورك، حيث نشأ وترعرع، وقال عنه أروع ما قيل في تمجيد الزعماء التاريخيين الأطهار والأبرار الذين أعادوا بناء أوطانهم، وحققوا لأنفسهم وبلادهم المجد. في هذا لم يختلف عن الكوري الشمالي، الرئيس الصيني، وكلاهما لم يختلفا عن بوتين الرئيس الروسي، أو عن آبي رئيس وزراء اليابان، أو مون رئيس كوريا الجنوبية، أو ماكرون مضيف المؤتمر. قال وكرر قوله إن هذا الأسلوب أسلوبه في التفاوض، ولن يغيره.
قال، وأظن أنها كانت المرة الأولى التي يعلن فيها، وبالصراحة القصوى، أن الصين في عهده لن تكون الدولة الأعظم في العالم. لن يسمح بذلك. لن يحدث مهما حدث. قال أيضاً، بالتلميح ثم التصريح، إنه سعيد بما يفعل بوريس جونسون، خصوصاً أنه نفذ بالدقة الممكنة نصائحه له في شأن «بريكست»، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي لا ينفك يعلن عن كراهيته له، نصائح اختصه بها قبل أن يصبح وزيراً للخارجية ثم رئيساً للحزب ثم رئيساً للوزراء. هل تكون من بين هذه النصائح نصيحة بتجاوز القوانين والقواعد الدستورية والانقلاب على روح الديمقراطية نتج عن الأخذ بها قرار تعطيل البرلمان البريطاني؟ قال هذا المعنى في مؤتمر نصف المشاركين فيه أعضاء في الاتحاد الأوروبي. لم يكتف بغرس مضمون رسالته، فراح يلمح إلى أنه وجه نصائحه إلى طرف في الأزمة الدستورية الناشبة في إيطاليا، ولن يهدأ له بال حتى تنفذ نصيحته، ويتحقق له ما يريد في نوع الحكومة القادمة في إيطاليا، وربما يحلم أيضاً بالتدخل في تشكيل حكومات كل أوروبا.
لا أقلل ولا أبالغ في قيمة وخطورة ما فعله دونالد ترمب في ساحة واحدة من ساحات العلاقات الدولية خلال عامين ونصف العام. أردت فقط أن أنقل بعض انطباعات، لتعكس ربما بعض توقعات لما يمكن أن يحدث في العام المقبل على كل الأصعدة، وليس فقط صعيد السياسة الخارجية، بينما الرئيس الأميركي يستعد لانتخابه لولاية ثانية.