خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من طرائف المخابرات

في العهد الثوري لعبد الكريم قاسم، دخل في ذهن العراقيين أن الإنجليز يخططون لانقلاب ضد حكومة الثورة وإعادة النظام الملكي للبلاد. ولصيانة العراق من ذلك ورد مكر الإنجليز إلى نحورهم، ركزوا على مراقبة المسؤولين البريطانيين. عمدت السلطات إلى مراقبة رجال السفارة البريطانية، ولا سيما ملحقها العسكري. لاحظ الملحق أنه حيثما ذهب تبعه رجل على دراجة نارية. لا شك أن المخابرات العراقية كلفت هذا الرجل بملاحقة هذا الضابط الإنجليزي أينما ذهب لئلا يسلم مخططات الانقلاب لأحد من الخونة. قالوا له «اخوي يا اخوي. لا تخلي هذا الصاحب يفلت من نظرك».
بمرور الأيام نشأت علاقة بين الاثنين. وأخذ كل منهما يسلم على الآخر كلما رآه. كلما خرج الملحق من مبنى السفارة لاحظ وكيل المخابرات ودراجته في انتظاره. فيسلم عليه بعربيته المكسرة: تسبح على خير سيد!
ذهب في أحد الأيام لحفلة ساهرة في بيت أحد رعايا صاحبة الجلالة. استمرت الحفلة لساعة متأخرة من الليل. وعندما خرج ليركب سيارته التفت إلى عبد (لا بد أن هذا كان اسمه، فمعظم وكلاء المخابرات اسمهم عبد) ولاحظ أنه كان نائماً فوق دراجته ملتفاً بمعطفه. فتحير الصاحب في أمره. كيف ينصرف من دون الجاسوس المكلف ملاحقته؟ كان رجلاً طيباً وأدرك أنهم سيعاقبونه على تقصيره عندما يكتشفون أن ضابطاً إنجليزياً سار في بغداد من دون أحد يراقبه! فذهب إليه ووضع يده على كتفه ليوقظه: «سيد اصح من النوم! الصاحب الإنجليزي يريد يمشي»!
نفض النوم من عينيه واستفاق من حلم لذيذ كله فلوس. شكر الضابط واستعد لتشغيل دراجته. لكنها أبت واستعصت. تطوع الضابط ليشغلها له «تسمح أساعدك». لكن الدراجة لم تستجب إليه كذلك. تبين أنها استنفدت بنزينها وغدت من دون وقود. فتطوع الضابط أن يذهب بسيارته ويشتري بعض البنزين من البنزينخانة. لكنه توقف وتأمل. فذلك يعني أن ضابطاً إنجليزياً يسير بسيارته من دون جاسوس يتابعه. غير ممكن! ويشتري بنزيناً! يا ويل! فكر في أن يأخذ الجاسوس معه في سيارته ليشتري البنزين له وفي حضوره. لكنه أدرك أن مديرية المخابرات لن تستأنس بذلك؟ جاسوس من جواسيسها في صحبة إنجليزي وراكب في سيارته!
«تسمح سيد»! قال الضابط ومضى إلى مؤخرة سيارته وفتح الصندوق وأخرج أنبوباً بلاستيكياً دقيقاً ثم حرك سيارته بحيث جعل مؤخرتها موازية لخزان وقود الدراجة، مصمص فيه حتى تدفق البنزين منه، فدس الطرف الآخر في خزان وقود الدراجة بحيث أخذ البنزين ينساب من خزان وقود السيارة إلى خزان وقود الدراجة بطريقة السيفون المعروفة. وقف وكيل المخابرات ينظر ويعجب بلوذعية الضابط الإنجليزي. وعندما انساب ما يكفي من الوقود، سحب الأنبوب وأغلق فم الصندوق. «يالله سيد شغّل»! تقدم الجاسوس العراقي، وضع قدمه على مضرب الحركة وكبسه بأناة فاشتغلت ماكنة الدراجة. شكراً صاحب. الله يطول عمرك!
«الصاحب يقدر يمشي هسه» قال الضابط مبتسماً ومضى إلى سيارته وسار بها. نظر في المرآة فلاحظ السيد عبد يجري وراءه مرتاحاً. كل شيء حسب الأوامر بفضل قطرة بنزين من سيارة الصاحب.