توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

من الظن إلى اليقين... ثلاثة مستويات للمعرفة

أكتب هذه السطور تعقيباً على سؤال للزميل مسلم الصحاف، حول مقدار الحقيقة في أخبار الصحف. وأفهم أن مقصود السائل هو «صدقية الأخبار». لكنه استعمل كلمة «الحقيقة» فبدا لي غريباً نوعاً ما. وسرعان ما ثبت صدق ظني، فقد أجابه عدد من قرائه، إجابات توحي بأنهم يخلطون بين مفاهيم «الحق» و«الحقيقة» و«الواقع» و«الصحيح»، مع أن معانيها مختلفة. وأذكر للمناسبة نقاشاً موسعاً حول موضوع مماثل، بيني وبين الأستاذ عدنان عيدان، وهو خبير في حوسبة اللغة العربية، ولا سيما استخداماتها في التعليم. وقد أخبرني أن كثيراً من نقاشات الشباب العربي، تنقلب إلى جدالات عقيمة أو حتى نزاعات، لأنهم لا يميزون بين المحمولات المختلفة للتعابير والمصطلحات، وأن السبب الجوهري في هذا، هو ضعف مخزونهم اللغوي. وحسب اعتقاد الأستاذ عيدان، فإن خريج الجامعة يجب أن يكون قادراً على تقديم حديث لمدة لا تقل عن نصف ساعة، من دون تكرار أي كلمة أو وضعها في غير سياقها الصحيح. وأعلم أن 90 في المائة من شبابنا لا يقدرون على هذا.
وبالعودة إلى نقاش الزميل الصحاف، فقد اتضح من ردود المتداخلين، أنهم ظنوا أن السائل يقصد الحقيقة الكاملة التي لا يختلف عليها اثنان. وبعضهم قال إن الحق قصر على الشريعة المقدسة. والواضح أن المعنى الذي أراده هو الحق «النظري» المقابل للباطل. وقال آخرون إن الخبر الصحيح هو ما تراه بعينيك لا ما تقرأ عنه. أي إنه يماهي بين الحق والواقع. فالذي تراه بعينيك هو الأشياء المادية الواقعية، وليس الحق المجرد أو الذهني أو النظري.
وبدا لي أن هذا الخلط يجعل نقاشاتنا قليلة الفائدة، نظراً لاختلاف المعاني المنعكسة في ذهن القارئ، عن تلك التي يقصدها الكاتب. لذا وجدت من المفيد تقديم تصور أولي، يوضح الفارق بين الأشياء التي نراها في العالم الواقعي، والأشياء التي نصنعها في داخل أذهاننا، وكلاهما نظنه حقيقة أو وصفاً للحقيقة. وهو قد يكون مجرد انطباع أو تصور غير محايد.
سوف أترك تفصيل هذه المسألة لكتابات قادمة. لكني أود الآن التأكيد على الفارق بين ثلاثة مستويات للمعرفة، هي الظن والعلم واليقين. ويشكل الأول (الظن) تسعة أعشار المعارف التي يحملها كل منا في ذهنه. وهو يعتمد عليها في التواصل مع عالمه. لكونها مفتاحاً للمرحلة الثانية أي العلم. الانطباع الأولي عن الأشياء والشك والتفكير غير المكتمل، والاحتمال والتخيل، كلها تنتمي إلى المستوى الأولي.
أما الثاني (العلم) فهو المعرفة المدعومة بدليل معياري، يمكن التحقق منه بواسطة أي شخص. إن الأكثرية الساحقة من الناس لا يستطيعون البحث عن الأدلة أو لا يرغبون فيه. لذا فإن علمهم محدود بمجال اختصاصهم، حتى لو حازوا قدراً من المعرفة في مجالات أخرى.
المستوى الثالث (اليقين) وهو المعرفة التي تحوزها من دون دليل علمي. قد تتوصل إليها بأدلة شخصية (غير معيارية) أو من دون دليل أصلاً. لكنها لا تتوقف على الدليل العلمي وليست مشروطة به. وهي ما نسميه الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) أو الآيديولوجيا. كل الناس لديهم قناعات من هذا النوع، دينية أو غير دينية.
إنني أعرض هذه المستويات الثلاثة كي أدعو القراء لتحاشي الخلط بينها. فكل منها له طريقة في الاستدلال، بل وحتى مستوى من الشحن المعنوي في الكلمات. سوف أعود للموضوع في وقت آخر. لكنني أظن أن هذا كافٍ لتوضيح الفكرة.