جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

يحلمون بخلافة ترمب وهم لا يدركون

كنت واحداً من ملايين تابعوا الحوارات التي دارت بين عشرين مرشحاً لمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة. دعت إلى الحوارات وأدارتها قناة تلفزيونية ذائعة الصيت والنفوذ. الفكرة رائعة، فالحوارات ممكن أن تكون فرصة لقطاع معتبَر من الرأي العام لم يصل إليهم، وقد لا يصل، صوت مرشح مغمور ولكن لديه ما يعلن عنه ويستحق أن يسمعه الناس. أعترف بدايةً بأنني وإنْ كنت غير مشارك في العملية الانتخابية الأميركية إلا أنني كنت دائماً شديد الحرص على متابعتها. منبع هذا الحرص الدور الذي لعبه في حياتي وحياة أمتي كل، وأؤكد على كل، مرشح أميركي فاز في الانتخابات وصار رئيساً. أذكر منهم أولهم روزفلت وخليفته ترومان وآخرهم ترمب. كلهم أثّروا بعمق في تحولات العالم بالسلم أو الحرب وعندنا خلّفوا جروحاً لا تندمل. أظن أني كنت أفتش في هذه الحوارات الأخيرة عن «رئيس» أميركي يضمن لهذه الجروح أن تندمل أو على الأقل لا يضيف إليها.
بدأت المشاهدة وفي وعيي يرقد اقتناع منذ حوارات جرت خلال الحملة الانتخابية الماضية بأن المرشح دونالد ترمب لا يمكن أن يفوز. أذكر كيف برز الرجل بهيئته وتصرفاته وجهله في الشؤون الخارجية وقضايا الصراع الدولي على بقية المرشحين فاستحقّ بالفعل اقتناعي واقتناع الغالبية العظمى من المشاهدين بفشله المحتوم. لم يفشل. فاز ترمب. ليست قضيتنا الآن كيف فاز ولماذا، ولكنه فاز. معنى كلامي أننا قد نقرر من خلال هذه المشاهدة التي استهلكت من وقتنا ساعات احتمالاً أكبر بفوز أحدهم، رجلاً كان أم امرأة، أو بفشل أحد آخر ونُفاجأ بعد عام أو أكثر أننا أخطأنا خطأ جسيماً ونعيب علينا نقص حكمتنا أو، وهو الغالب، نقص معلوماتنا عن الآلة الجهنمية التي تحكم أميركا. هذه الآلة التي ربما وجدت في جهل ترمب بالسياسة الدولية وشغفه بسلوكيات الصفقات سيئة السمعة في إدارة شؤون الحكم، أقول ربما وجدت في هذا المرشح غايتها التي لم نحسبها حساباً مناسباً.
أعيب على القناة الأميركية التي دعت إلى الحوارات ونظمتها وأدارتها، انحيازها لكل ما من شأنه توسيع دائرة المشاهدة على حساب القضايا الجوهرية التي تؤثر في الأمن والسلم الدوليين ومصالح أميركا والغرب الاستراتيجية. أكاد أحكم بأن القائمين على القناة، وعلى تنظيم الحوار وإدارته، قرروا تعظيم المساحة المخصصة للآيديولوجيا على حساب المساحات التي كان يجب توفيرها لقضايا خارجية أو حتى لقضايا داخلية من نوع البنية الهيكلية المتصدعة والاعتداءات المتزايدة على البنية الدستورية والافتئات على مؤسسات الدولة. جرى الحديث طويلاً عن قضية الرعاية الصحية لكل المواطنين وهيمنة قطاع المال والأعمال على قطاعات السياسة وصنع القرار ومجانية التعليم. كلها، أو أكثرها، مفيدة في حملة انتخابية لمرشحين لاحتلال مقاعد في مجلس النواب وبدرجة أقل في مجلس الشيوخ، وفائدتها أقل لمرشح لمنصب الرئاسة. هي نفسها، لو أثارها واعتمد عليها مرشح لمنصب الرئاسة قد تؤلب عليه قوى نافذة جداً تؤثر حتماً في مسيرة ونتائج الحملة الانتخابية. إنها حقاً دولة عميقة. هكذا فاز ترمب على السيدة هيلاري كلينتون ولست آسفاً على فشلها، وهكذا يُحتمل جداً أن يفوز مرة أخرى باعتبار أنه لم يحقق بعد التغيير المطلوب وعائد هذا التغيير لصالح مصالح أقوى تأثيراً من حصيلة الصندوق الانتخابي. أخشى أن أقول إن القناة التلفزيونية نجحت في تحويل مجرى الحملة الانتخابية لتصبح استفتاءً على آيديولوجة الدولة: تسمح بشعارات اشتراكية أم تبقى في الجوهر والشعار رأسمالية وإنْ بلون هذا العصر الغريب؟
قرأت تحليلاً أعاد إلى المؤرخ وتلميذ علم السياسة ذكريات أوجاع ليكتشف منها أن العالم لم يشفَ منها. يقول التحليل، وقد أحسن القول، إن العالم يعيش الآن وبفضل الرئيسين ترمب وشي أجواء الشهور التي سبقت كارثة بيرل هاربر البحرية، وبمعنى أشمل وأوضح، الشهور التي سبقت دخول أميركا الحرب العالمية الثانية. أغلب قراء هذه الصفحة لم يكونوا شهوداً على الكارثة ولا مسبباتها. أما المسببات فمثيلاتها قائمة الآن. كان في شرق آسيا، وبكلمات أخرى كان في أقصى غرب المحيط الهادي، دولة تسعى لفرض هيمنتها الإمبراطورية على المنطقة ومنها على قارة آسيا. الهيمنة كانت تعني أيضاً وتلتزم إخراج الغرب منها. الدولة الساعية وقتذاك لفرض الهيمنة وإخراج الغرب كانت اليابان الإمبراطورية المتوسعة، أما الدولة الساعية الآن لفرض الهيمنة وإخراج الغرب فهي حسب اعتقاد الرئيس ترمب وكثير من حوارييه فهي الصين.
ما يعلنه ترمب عن الصين في تغريداته وما يعتقده المقربون أمور يجب ألا تخفى على المراقبين. تكاد واشنطن وهي تتعامل مع الصين تقرأ من كتاب تاريخ. البنتاغون يقرر تسيير أساطيله بكثرة عبر مضيق تايوان. تايوان هي «الجزيرة – الدولة» المتمردة على الوطن الصيني الأكبر. تصوّروا معي ما يمكن أن ينتج عن خطأ ملاحي بسيط يتسبب في تبادل قذائف بين قارب أميركي وطائرة صينية في أجواء المضيق. تصوروا أن يحدث هذا بينما أجهزة الإعلام في كلتا الدولتين العظميين وتغريدات وتصريحات المسؤولين الكبار فيهما تشعل النار حول حرب تجارية دائرة بالفعل بينهما. تصوروا أن يحدث هذا بينما يحلم الشعب الصيني بصعود أبطاله إلى الوجه غير المضيء من القمر ومن هناك إلى محطات فضائية لا نهائية العدد والتسلح. يحدث هذا وغيره كثير بينما المنافسة بين الصين وأميركا على موقع قمة القيادة الدولية على قدم وساق. الصين رسّخت أقدامها في بحر الصين الجنوبي عبر تطوير، أو الاستيلاء على سلسلة جزر وربط بعضها ببعض لتؤمن بها طرق الوصول إلى بقية جنوب آسيا وأستراليا ومن هناك إلى العالم.
أذكر أن ستيف بانون، العقل الإمبراطوري، وأقصد العقل غير المالي، للرئيس ترمب، قال في عام 2016، أي في عام الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري دونالد ترمب: «سوف ندخل حرباً في بحر الصين الجنوبي خلال السنوات الخمس أو العشر القادمة، لا شك عندي في هذا». لا تهمني ثقته الزائدة بنفسه بقدر ما تهمني المقارنة بين ما يفعله هذه الأيام في أوروبا، داعماً لعمليات تغيير شاملة في القارة ومخرباً مشروعات للعولمة ومُنشئاً لتحالفات شعبوية سوف تقودها واشنطن الترمبية خلال حكم ترمب أو حكم مَن يأتي بعده ويؤمن بأسلوبه وأحلامه في تحقيق شعار «أميركا عظيمة»، بل هي الأعظم.
هل يُعقل والأمر على هذا النحو من الخطورة أن يجري حوار بين مرشحين ديمقراطيين لتولي منصب رئيس أميركا يأتي فيه ذكر الصين 16 مرة عند مناقشة موضوع العلاقات التجارية ولم يأتِ مرة واحدة عند مناقشة موضوع الأمن القومي، باستثناء الإشارة إليها ضمن الحديث العام عن دول في شرق آسيا تمتلك القدرة النووية؟ نعرف أن المؤسسة الأمنية الأميركية قررت وللمرة الأولى قبل شهور قليلة اعتبار الصين منافساً استراتيجياً، شرف لم تعد تحوزه روسيا. نعرف أيضاً أن بعض أعضاء الهيئة التشريعية انتبهوا إلى خطورة تغريدات وسياسات الرئيس ترمب فبعثوا الشهر الماضي برسالة إلى الرئيس تحذره من «الانزلاق المتسارع في العلاقات بين أقوى دولتين على وجه الأرض».
لم تشأ القناة التلفزيونية إثارة الموضوع، وقد تكون حجتها أن المشاهد لا يهتم بقضايا السياسة الخارجية، أم أن المرشحين أنفسهم غير واعين لمدى التدهور في العلاقات بين بلادهم والصين، ولا يملك أحدهم التصور المناسب للتعامل مع هذا الوضع، غائباً عنهم أن هناك، وليس بعيداً، يقف العالم منزعجاً من احتمالات يكرر فيها التاريخ ما ارتكبه قادة سياسيون والكوارث التي تسببوا فيها؟