جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

القمر أقرب من بروكسل... أحياناً!

جرت العادة، أن توفر الدولة البريطانية سكناً لرئيس الوزراء وعائلته، لكن تأثيثه ليس من مسؤولية الدولة بل على الساكن. وفي هذا السياق، يقال إن رئيس الوزراء إدوارد هيث لدى فوزه بالانتخابات عام 1970 واستعداده للدخول منتصراً إلى 10 داوننغ ستريت، قام شخص بإلقاء دهان ملون عليه لطخ ملابسه. عقب تلك الحادثة، سئل السيد هيث عن مدى انزعاجه من إلقاء الدهان عليه وهو يهم بدخول مقر رئيس الحكومة؟ فأجاب بما معناه أن الدهان، وإن كان مزعجاً، لم يزعجه كثيراً بقدر ما أزعجه اكتشافه لدى دخوله الشقة التي سيقيم بها أن السيد هارولد ويلسون، الذي كان يقيم بها قبل خسارته الانتخابات، لم يترك أي طعام في الثلاجة.
وبالتأكيد، فإن السيدة ماي، رئيسة الوزراء السابقة، لن تفعل ما فعله السيد ويلسون، لكن الطعام الذي تركته في الثلاجة، «بريكست»، مر المذاق، وغير قابل للبلع، رغم كل المحاولات والجهود التي بذلت طيلة ثلاث سنين.
بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لوصول أول إنسان إلى سطح القمر، قال السيد جونسون في تصريح قبل ظهور النتائج، إنه إذا كان بإمكاننا وضع رجل فوق سطح القمر، فإن حل مشكلة الحدود بين بلفاست ودبلن سيكون بسيطاً.
من جهة أولى، الوعود المعسولة التي تقدم خلال الحملات الانتخابية معروفة، لكنها تتبخر سريعاً في الهواء، وتبقى المشاكل عالقة كشوكة في حلق، خاصة إذا كانت في تعقيد المشكلة الحدودية الآنفة الذكر وصعوبتها، التي كانت عقبة كأداء، حتى الآن، في عدم مصادقة البرلمان البريطاني على الاتفاق الذي أنجزته السيدة ماي مع الاتحاد الأوروبي.

من جهة أخرى، فإن الوصول إلى القمر ومشكلة الحدود مختلفتان كاختلاف التعقيد الصعب، والتعقيد الناعم. فالوصول إلى القمر، تعقيد صعب، يحل عن طريق آلة حاسبة قوية، ومشكلة الحدود تعقيد ناعم يظهر إلى السطح حينما تنشب مشكلة بين عدة أطراف مختلفين على تعريفها. وما يخص مشكلة الحدود، بل «البريكست»، فإن بعض تلك الأطراف لا يعترف أصلاً حتى بوجود مشكلة.
أضف إلى ذلك، أن بروكسل حاولت إيجاد حل لمشكلة ليست من صنعها، بل جاء بها محملاً الوفد البريطاني، ووضعها على مائدة التفاوض. والمتابعون لقضية «البريكست» يعرفون أن بريطانيا تقدمت منذ بداية المفاوضات بحزمة متناقضة من المطالب في الوقت نفسه:
1 - أن بريطانيا يجب أن تترك السوق الموحدة والاتحاد الجمركي.
2 - عدم وضع حواجز حدودية بين آيرلندا الجنوبية والشمالية، كما كانت قبل اتفاق السلام.
3 - أن آيرلندا الشمالية يجب أن تكون في العلاقة نفسها مع الاتحاد الأوروبي كبقية مناطق بريطانيا الأخرى.
المسؤولون البريطانيون، استناداً إلى توني بلير، كانوا على علم، أن مطلبهم الأول، بترك السوق الموحدة والاتحاد الجمركي يتضمن إما أن تعامل شمال آيرلندا معاملة مختلفة عن بقية بريطانيا، من قبل الاتحاد الأوروبي. أو أن تقبل كل بريطانيا البقاء في الاتحاد الجمركي، على الأقل، فيما يخص السلع والبضائع، أو في السوق الموحدة.
مغادرة بريطانيا لاتفاقية الاتحاد الجمركي، ستكون سبباً لعودة الحاجز الحدودي بين دبلن وبلفاست. ولهذا السبب، جاء الوفد التفاوضي الأوروبي بفكرة (The backstop) للخروج من مأزق إعادة الحاجز الحدودي. أي قبول بريطانيا الاستمرار في تطبيق وتنفيذ ما وضعه الاتحاد من لوائح ونظم تنظيمية تتعلق بحرية التجارة والمعايير السلعية بين الدول الأعضاء.
هذه الفكرة لم تُقبل من جانب النواب البريطانيين المؤيدين للخروج، لأنها لا تضع حداً زمانياً محدداً، وبالتالي تضطر بريطانيا لاستمرار قبولها وتعاملها بلوائح وقوانين الاتحاد الأوروبي المنظمة للتبادل التجاري، مما يعنى أنها لن تتمكن من قطع جسورها نهائياً مع الاتحاد.
وعليه، يمكن القول إن مشكلة الأثاث الخاص برئيس الوزراء الجديد، في مقر إقامته الجديد، ليست بذات بال، وإن وصول الإنسان إلى سطح القمر، أو المريخ، سيكون مشكلة للعلماء في «ناسا» وغيرها من مؤسسات الفضاء، ولن تقلق، مطلقاً، بال رئيس الحكومة البريطانية الجديد.
ما سيقلق باله حقاً، ويؤرقه في ليالي مقر إقامته الجديد، يتمثل في مشكلة رفض الصقور الاتحاديين في بلفاست لعودة الحاجز الحدودي مع دبلن، وإصرارهم على أن تعامل بلفاست كأي مدينة بريطانية أخرى من قبل الاتحاد، في أي اتفاق يعقد.
المسافة الجغرافية بين لندن وبروكسل قريبة جداً. لكنها، حالياً، قد تبدو لرئيس الوزراء البريطاني الجديد أبعد من سطح قمر وقف فوقه ذات يوم رائد فضاء اسمه نيل آرمسترونغ منذ خمسين عاماً.