إميل أمين
كاتب مصري
TT

واشنطن ـ الرياض... سردية ما بعد استراتيجية

منذ فبراير (شباط) 1945 والتقاء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي روزفلت للمرة الأولى والوحيدة في البحيرات المرة على متن الطراد الأميركي «يو إس إس كوينسي»، والعلاقات السعودية الأميركية ترتقي إلى أن وصلت في الأعوام الأخيرة إلى ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد استراتيجية، من جراء الترابط العضوي والهيكلي، بين دولة تمثل سويداء القلب من الخليج العربي والشرق الأوسط، وأخرى تبقى رائدة وقائدة في عالمنا المعاصر، وتكاد تشبه دور روما في زمن إمبراطوريتها التليدة.
قبل أيام أصدر خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز أوامره باستقبال المملكة قوات أميركية لرفع مستوى العمل المشترك في الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها، وضمان السلم فيها.
القرار الملكي السعودي يستدعي منا طرح علامة استفهام تاريخية عن شكل التحالف الاستراتيجي الأميركي السعودي، وهل هو شأن وليد اللحظة الآنية، وتطورات الأحداث في الخليج العربي، بعد حالة الاندفاع والتهور الاستراتيجي التي تتبعها طهران، تلك التي باتت تعيد سيرة القراصنة في الأزمنة الغابرة، وتغير على السفن البحرية المحملة بالنفط، كما حدث مع الناقلتين البريطانيتين الأسبوع الماضي، أم أن التعاون الأميركي السعودي، قصة أكبر من أن نستعرضها في سطور ومسطح ضيق؟
لا يمكن للمرء أن يقرأ المستقبل ويستشرفه إلا في ضوء الماضي وتجاربه وخبراته التراكمية، وعندنا أن المملكة كانت المعين الأنفع والأرفع للولايات المتحدة على صعيدين طوال عقود الحرب الباردة، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية.
بداية، شكلت بجدارياتها من البشر والحجر، الصخرة التي تحطمت عليها الأطماع الشيوعية في الولوج عقائدياً واختراق منطقة الخليج العربي، تلك الحاضنة لسائل الحضارة في القرن العشرين، أي النفط ومشتقاته بداية، ولبقية الشرق الأوسط تالياً، وعبر كونها قلب العالم الإسلامي النابض، باتت المملكة الرصيد والمحتوى الإيماني والإنساني المواجه والمجابه لدعوات الإلحاد وصيحات المادية.
تالياً كان الاحتياط النفطي السعودي أهم ركيزة من الركائز التي مكنت الأميركيين من إنقاذ أوروبا من الوقوع في براثن الاتحاد السوفياتي، وقد ارتبط الأمن الأميركي ارتباطاً وثيقاً لا ينفصم بأوروبا، وبالتالي بنفط المملكة العربية السعودية، وحين تخطى الطلب الأميركي حدود الإنتاج المحلي، أصبح النفاذ إلى النفط السعودي مصلحة استراتيجية ملحة أكثر من أي وقت مضي، ولم تقصر المملكة في تقديم العون للعم سام.
العمل والتعاون المشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، يظهر المزايا الاستراتيجية التي حظي بها الموقع الجغرافي للسعودية في الماضي، ويبقى كما هو في الحاضر، والمتغير هو القوى المارقة وفَعَلة الإثم من حول العالم.
مع تزايد حرارة الحرب الباردة أدركت الخارجية الأميركية مبلغ الأطماع السوفياتية في المنطقة بسبب نفطها، إضافة إلى موقعها الاستراتيجي جواً وأرضاً وبحراً بين أوروبا وآسيا، وازدادت أهمية المطار في الظهران عبر تلك القاعدة السعودية الفائقة الأهمية بالنسبة للسعودية وحلفائها.
أظهرت الولايات المتحدة ضرباً من ضروب التعاون العسكري الاستراتيجي والخلاق، والذي يأخذ في الحسبان ما قدمته المملكة طوال عقود من روح وشراكة إيجابيتين، انعكستا في انتصار الناتو وانكسار حلف وارسو بمضامينه ومعانيه القديمة، قبل أن تتحول روسيا إلى دولة صديقة وتنزع عنها جلدها الآيديولوجي الأحادي التوجه.
كان ذلك خلال عام 1991 حين قام صدام حسين بغزو الكويت، فقد نشرت الولايات المتحدة آلاف الجنود في معسكرات على أراضي المملكة، ولعبت دوراً لا ينكر بالتعاون مع القوات المسلحة السعودية في ردع الجنون الصدامي، ذاك الذي كان يهدد المنطقة بأسرها.
اليوم تتغير أسماء المغيرين، وتظل أهدافهم الخبيثة قائمة وراء الأبواب مشتهية إفساد أمن وسلام المنطقة، الأمر الذي يتبدى من خلال تصريحات شون روبرتسون المتحدث باسم البنتاغون، والذي يذهب إلى أن «استقبال قواتنا في السعودية، يوفر ردعاً إضافياً، ويعزز قدراتنا على حماية مصالحنا».
قرار البنتاغون نشر قوات أميركية على أراضي المملكة، يعمل ولا شك على رفع مستوى العمل المشترك بين الجانبين، لا سيما في ظل التهديدات الإيرانية المتصاعدة، وفي وقت لا تجد فيه طهران والملالي من مهرب أو مفر سوى تصعيد المشهد بالاحتكاك في الزحام تارة، وبالالتحام في الظلام تارة أخرى، وما بينهما تحاول تسويف الوقت، على أمل أن تنقضي السنة المتبقية من عمر رئاسة دونالد ترمب، عسى أن يخلفه رئيس ديمقراطي يعيد سيرة باراك أوباما الأولى، وتهاونه الغامض مع إيران.
والشاهد أن الناظر لكل التصريحات الصادرة عن المسؤولين في المملكة يدرك أن السعودية دولة سلام، وليست داعية حرب أو خصام، لكن هذا لا يمنع من إيصال رسائل عملية شديدة اللهجة للنظام الإيراني، تردعه عن غيه السادر.
التعاون الاستراتيجي السعودي الأميركي يحمل ضمن ما يحمل مضامين كثيرة، يتوجب على الأميركيين في الداخل قراءتها بعمق، لا سيما الأصوات الموتورة من المملكة، وأصحاب الشر المجاني، وأولئك الذين أغراهم رنين الذهب القطري في وسائل الإعلام الأميركية مدفوعة الأجر.
الرسالة الجوهرية هي أن المملكة هي الصديق والحليف الصادق والصدوق لواشنطن في المنطقة، وتاليا إيضاح أهمية منطقة الخليج والشرق الأوسط بالنسبة لصناعة السياسة الأميركية الخارجية، في صراعاتها القائمة والقادمة مع روسيا والصين، وضمن خطوط طول وعرض مخاض الأقطاب الأممية الجديدة.
الخلاصة: الرياض - واشنطن... سردية ما بعد استراتيجية.