د. شمسان بن عبد الله المناعي
TT

هل يعيد النظام الإيراني النظر في حساباته؟

أزمة النظام الإيراني مع دول العالم خصوصاً مع الدول المجاورة، بدأت منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ومجيء الخميني للحكم. وفي خضم الحماس للتيار الطائفي الذي رافق الثورة تولّدت عند رجال الدين فكرة إقحام السياسة بمفهومها المعاصر في الدين، وأصبح النظام الإيراني يقوم على عقيدة «ولاية الفقيه» التي تبناها الخميني، ودعا إلى إقامة الإمبراطورية الفارسية لكي يحكم العالم، ومنذ ذلك الوقت تبنى مبدأ تصدير الثورة الإيرانية لكي تحقق أهدافها، ولذا فرض عليهم هذا الهدفُ التعجيلَ بنشر المذهب الاثني عشري، وذلك لقرب ظهور «الإمام الاثني عشري» وهو الوحيد في اعتقادهم المنوط به إقامة «الدولة الإسلامية»، وهذا الإمام في نظرهم حي يُرزق ولا يعرف مقر إقامته إلا قلة من كبار أئمة الشيعة، كما يدّعون، ولسوف يقيم العدل والسلام في العالم، ولذلك أصبح الخميني «يمثّل الولي الفقيه» وله سلطات مطلقة وهو المرجع الأعلى والممثل «للإمام المنتظر» ولا يناقش أحدٌ قراراته.
من دون فهم هذه الفكرة اللاهوتية لا يمكن فهم أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، وما تقوم به إيران من تدخلات في شؤون الدول الأخرى هنا وهناك، ولذلك عندما جاءت الثورة الإيرانية حددت علاقاتها الخارجية، حيث أطلقت على أكبر دولة في العالم وهي أميركا «الشيطان الأكبر»، ولذلك أصبحت كل مؤسسات الدولة خاضعة تحت إمرة «الولي الفقيه»، أما الدولة أو الحكومة المنتخبة فما هي إلا مجرد هيكل صوري للسلطة، ولا صلاحية لمن فيها بمن فيهم الرئيس المنتخب في اتخاذ أي قرار مصيري إلا بموافقة «الولي الفقيه».
من هنا ظهرت مشكلات النظام الإيراني مع جيرانه، وأول ما بدأت به هي الحرب مع جارتها، دولة العراق، عام 1980، وذلك بسبب أن العراق يحتضن أكبر المزارات، وهناك عدد كبير في العراق معظمهم من الشيعة الاثني عشرية، وعندما قامت الحرب التي لم يتمكن فيها النظام الإيراني من تحقيق هدفه وقَبِل بالصلح حينها، قال الخميني: «أن أتجرع السم خير لي من أن أقبل مثل هذا القرار» بيد أن أهدافه لم يتخلَّ عنها.
من بعد «السيد الخميني» جاء «السيد خامنئي» لكي يلعب نفس الدور، وساعدته ظروف دولية لتكملة المسيرة، وتمثلت هذه الظروف في الغزو الأميركي للعراق، والذي سُلمت فيه السلطة للموالين لإيران، وأصبح العراق دولة شبه تابعة للنظام الإيراني، وخلالها عانى الشعب العراقي من حروب طائفية وأعمال إرهابية بوجود منظمات إرهابية مثل «داعش» وغيره، وشكّل يومها العراق خطراً على دول الخليج العربية والسعودية، بعد أن كان العراق في أثناء حكم الرئيس صدام حسين يقوم بعكس هذا الدور.
بعد هذه الأحداث الأسطورية تمكّن النظام الإيراني من مد نفوذه في الدول العربية، من خلال الأذرع المسلحة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق والبحرين، عندها تنبهت أميركا لخطر هذا النظام التوسعي على العالم وعلى مصالحها الخارجية، خصوصاً في دول الخليج العربي والسعودية التي يوجد فيها ثلث ما يصدّر من النفط العالمي.
توسُّعُ النظام الإيراني نبّه كذلك الدولَ الأوروبية التي بينها مصالح واتفاقيات مع إيران أهمها الاتفاق النووي، وحتى لا تدخل أوروبا في صراع مع إيران استدرجت النظام الإيراني لتوقيع معاهدة معه، ودخلت معها أميركا في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والتي بموجبها لا تقوم إيران بتطوير مفاعلها النووي ويقوم الاتحاد الأوروبي بالتجارة مع إيران، وتحسين العلاقات معها من أجل دمج هذا النظام مع العالم.
لكن وكما يقول شاعر العرب الكبير: «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن»، جاء من صقور الحزب الجمهوري، من يلجم هذا الطموح الجامح لإيران، جاء دونالد ترمب وقام بالانسحاب من الاتفاق النووي والدخول في حرب كلامية مع إيران كما وعد ناخبيه في بداية الحملات الانتخابية الأميركية، لكن إيران تمادت ما تسبب في فرض عقوبات اقتصادية قوية على النظام الإيراني انعكست آثارها على الشعب الإيراني، حيث انخفضت قيمة العملة الوطنية المتداولة أمام الدولار في إيران، وانتشرت البطالة بين الشباب، وتدهور الاقتصاد الإيراني، ومن موقف ضعف هددت إيران بإغلاق مضيق هرمز، وتسببت في أعمال إرهابية استهدف ناقلتَي نفط في ميناء الفجيرة واحتجاز باخرة بريطانية، وكلها إفرازات تعبّر عن الوضع الاقتصادي والسياسي المتدني الذي وصلت إليه إيران.
ومما فاقم الأزمة بين أميركا وإيران أكثر أن النظام الإيراني لا يملك الخطاب السياسي التصالحي مع الآخرين، فهو لا يعرف إلا لغة الابتزاز والترهيب مع أي طرف بما في ذلك النظام الدولي، إضافة إلى ازدواجية السلطة فيه بين «الولي الفقيه» والرئيس الإيراني.
من جانبه، لا يزال النظام الإيراني يراهن في الوقت نفسه على أن أميركا ليست لديها الآن سياسة تنزع للحرب، وأصبح أكثر تهوراً في تصريحاته، وقادت هذه السياسة إلى زيادة الأمور تعقيداً رغم أن بعض دول العالم قامت بعدة محاولات لتهدئة الأوضاع، مثل الوساطة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي ورئيس الوزراء
الياباني، ولكن النظام الإيراني ظل بنفس العقلية التي كان يفكر بها في الماضي عند حربه مع العراق ولم يغيّر في تفكيره، واستمر في فرض نظام ديكتاتوري على شعبه وتعقّدت الأوضاع بشكل لا يجعل أي دولة في العالم تفكر في أن تتقرب من النظام الإيراني، وهذا سبّب عزلةً للنظام من الصعب حلها إلا بتغيير النظام الإيراني في اتجاهاته، ليدرك أن النظام السياسي العالمي قد تغير، وأنه ليس هناك مَن يدعو للحرب، وذلك بسبب أن أي حرب تقع سوف تمثل تهديداً للنظام العالمي، وبذلك تتعقد الأمور في منطقة حساسة من العالم وهي منطقة الشرق الأوسط بأكمله. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو: هل يعيد النظام الإيراني النظر في حساباته ويراجع سياساته، ويدرك أن نظامه أصبح منبوذاً من كثير من دول العالم على ما يقوم به من أعمال إرهابية، أم يستمر في سياسة توصِّله إلى الهاوية؟
يهدف النظام الإيراني ومن خلال الاستفزازات التي يقوم بها، مثل احتجاز ناقلات النفط في مضيق هرمز، إلى جر أميركا إلى القيام بضربة عسكرية له، وبذلك يوجِد له شعبية في الداخل، لأن الشعب الإيراني من جانبه أخذ يستاء من سياسة النظام، وبذلك يكسب تعاطف الشعب الإيراني، وثانياً أنه يخيل للنظام في حالة الحرب أن يتخلص بشكل أو بآخر من العقوبات الاقتصادية عندما تتعاطف بعض الدول معه.
في ظل كل هذه السيناريوهات نستنتج نجاح السياسة الخارجية التي يتعامل بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع النظام في إيران، وهي ما يمكن أن نطلق عليها «سياسة العصا والجزرة»، حيث جعل ترمب النظام الإيراني في أزمة وعزلة دولية، وخطاب ترمب وتصريحاته ليس فيها أي تناقض باستخدامه خطاب التهديد والترغيب، فهو من ناحية يهدف إلى جر النظام الإيراني إلى مفاوضات سلام من أجل التوقيع على اتفاق شامل لا يقتصر على المشروع النووي فحسب، بل يشمل عدداً من المسائل الإقليمية المقلقة لأميركا وحلفائها في الشرق الأوسط مثل الوجود الإيراني في سوريا واليمن وأن يكفّ عن تهديداته لدول الخليج العربية، وأن يضع حداً لصواريخه الباليستية، ومن هنا سوف يجعل الرئيس الأميركي في موقع قوة تجعله قادراً على إخضاع النظام الإيراني بطريقة دبلوماسية بتحقيق الأهداف التي يريدها، ومن ناحية أخرى يجنّب أميركا والعالم حرباً لا أحد يعلم عواقبها.