فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

لماذا انقطعنا عن تراثنا النثري؟

مشروع كبير أقدمت عليه «دار الكتب الوطنية» التابعة لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة بإصدارها سلسلة جديدة بعنوان «عيون النثر العربي القديم»، وتنوعت هذه السلسلة، التي حررها الدكتوران خليل الشيخ وأحمد خريس، المختصان بالأدب الحديث والنقد، لتضم أمهات من كتب النثر العربي القديم تغطي مساحة زمنية كبيرة تمتد ثمانية قرون، ابتداء من القرن الثاني الهجري وانتهاء بالقرن التاسع، وتشمل مختلف الأجناس الأدبية. وهي كتب أسست للنهضة الأدبية والثقافية في تلك الفترة الزمنية التي عرفت، أولا، نهوضا اجتماعيا واقتصاديا، وأصبحت مراجع لا يستغنى عنها في الحقب اللاحقة من الثقافة العربية، قبل أن يحل عصر الانحطاط، الذي ما يزال مستمرا بشكل من الأشكال، على الأقل نثريا. ومن هذه الكتب المهتمة بالشعر والشعراء «طبقات فحول الشعراء، للجمحي، و«أشعار النساء» للمرزباني، و«الأغاني» للأصفهاني. وهناك أخرى شملت التاريخ والاجتماع كمقدمة ابن خلدون، وكتب رحلات مثل رحلتي ابن فضلان، وابن جبير. وأعادت السلسلة أيضا طبع كتاب «البخلاء» للجاحظ، و«الصداقة والصديق» للتوحيدي و«حي بن يقظان» لابن طفيل، و«طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، وغيرها من أمهات الكتب التي شكلت جوهر تراثنا النثري الكبير.
هل ستساهم هذه السلسلة المهمة في إعادة وصل القارئ الجديد بتراثنا النثري؟ يأمل القائمون عليها بتحقيق ذلك، وتوعية القارئ «بما يحفل به ماضينا من كنوز أدبية حجبه عنها ربما انشغال الكثيرين بالثقافات الأخرى ضمن أفق العولمة والثورة التكنولوجية الحديثة التي وصلتنا بالعالم، وقطعتنا أحيانا عما يشكل جوهر ثقافتنا». وهي مهمة نبيلة وكبيرة حقا.
لكننا نعتقد أن المشكلة في علاقة القارئ الجديد بالتراث عموما تكمن في مكان آخر، حتى ما قبل الثورة التكنولوجية، وعصر الـ«فيسبوك». إنها تكمن في طريقة تقديمنا لهذا التراث، إذ لا يكفي أن نعيد طبع أمهات الكتب، وتزويدها بمقدمات دالة، وشروحات تفض مغاليق النصوص، في محاولة تقريبها من الذائقة الحديثة، وإبعادها عن التقعر والتعقيد، كما يقول المحرران، بل يجب العمل على النصوص ذاتها، أي إعادة تحديثها، ونعني لغويا. وهذا الأمر ليس بدعة، ولا يسيء للنصوص ذاتها. كل الثقافات الحية فعلت ذلك ليس مع تراثها الخاص بها فقط، بل حتى مع التراث العالمي، كإلياذة هوميروس مثلا، التي صدرت أخيرا لها ترجمتان بلغة إنجليزية بسيطة لتقريبها من القارئ، وقبلها أعاد الشاعر شيموس هيني ترجمة أو كتابة ملحمة «بيوولف» الأنجلوساكسونية بلغة حديثة إن صح التعبير. ونعتقد أن الكثير تعرفوا على شكسبير من خلال مسرحياته المبسطة قبل أن يقرأوها في طبعاتها الأصلية.
لنعترف أن أجيالنا الجديدة تعاني من غربة لغوية في علاقتها مع تراثها، الشعري والنثري، ونوهم أنفسنا إذا تصورنا أن أحدا قادر على قراءة «طبقات فحول الشعراء» أو «مقدمة ابن خلدون» في أصلهما. مثل هذه الكتب ما يزال للأسف راقدا على الرفوف، التي لا يصل إليها إلا المهتمون والمختصون، وهي خسارة كبرى لثقافتنا المعاصرة، التي لا يمكن أن تزدهر فعلا من دون إحياء الجوانب المشرقة في تراثنا، وبشكل خاص إعادة الاعتبار للنثر العربي، هذا الفن الجميل، الذي أبخسنا حقه كثيرا، بسبب «مرض الشعر».