نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

سينما من أجل البيئة

قد يكون المكان الأخير الذي تنتظر أن يستضيف مهرجاناً دولياً للأفلام البيئية، مدينة ليس فيها صالة واحدة للسينما. لكن الشغف بالفن والبيئة جعل شفشاون، المدينة الوادعة في جبال الريف المغربية، تحتضن هذا الحدث للسنة العاشرة. وتقع شفشاون في جوار متنزه تلاسمطان، أحد أهم المحميات الطبيعية في المغرب. المركز السينمائي المغربي حوّل الباحة الخارجية لقلعة القصبة التاريخية وسط المدينة إلى صالة لعرض الأفلام، كما قام بتجهيز قاعة للسينما في «مجمّع محمد السادس للثقافة والفنون»، خصيصاً للمهرجان. فأتى المهتمون بالسينما والبيئة من جميع مناطق المغرب، ليس لمشاهدة الأفلام فحسب، بل أيضاً لمناقشة مخرجين وصانعي سينما عالميين في أعمالهم، وكذلك لتعلُّم بعض أسرار المهنة في دورات تدريبية رافقت المهرجان.
عن طريق الصوت والصورة، تستطيع السينما إيصال رسالة بيئية قوية إلى الناس، لا للتوعية فقط، بل للحث على العمل من أجل التغيير. ليست مهمة الفن إيجاد حلول؛ إذ يكفيه عرض المشكلة وطرح التساؤلات لكي يساهم في تحريك القلق على المستقبل. وإذا كان الجمهور العريض للأفلام البيئية عامة الناس، فهو أيضاً المسؤولون في مواقع السلطة. الرسالة البيئية القوية التي تصل من خلال فن سينمائي محترف تدفع الناس إلى تغيير عاداتهم وتصرّفاتهم، وإلى الانخراط في العمل الاجتماعي للمساهمة في التغيير على المستوى الأهلي. لكنها أيضاً تحوّل الجمهور إلى قوّة ضاغطة لدفع المسؤولين السياسيين على المستوى الوطني، كما في الإدارات المحلية، إلى اعتماد خطط وإجراءات تحمي البيئة وتضمن التوازن لتحقيق التنمية القابلة للاستمرار.
حين ننظر إلى المباني والطرقات، هل نعرف ما هي كميات الرمال والحجارة والحصى المستخدمة في الإسمنت المصنوعة منها؟ فيلم الافتتاح للمخرج الفرنسي دينيس ديليستراك يعرض لمشكلة شفط الرمول من الشواطئ لأغراض البناء، وهو مادة أساسية في خليط الإسمنت. كما يكشف عن حجم الرمول المستخدمة لبناء الجزر الاصطناعية، بما فيها مواقع في بعض بلدان الخليج العربي.
شفط الرمول، بكميات كبيرة وبلا قيود احترازية كافية، يؤدي إلى تعرية الشواطئ، والقضاء على التنوع البيولوجي، وإفقار الحياة البحرية، وخسارة السكان المحليين مصادر رزقهم التقليدية. المخرج نفسه قدّم فيلماً مذهلاً عن أثر النقل البحري للبضائع بين القارات على تلويث المحيطات والقضاء على الحياة البحرية، كما على تلويث الهواء. والناقلات الكبرى من أهم مصادر الانبعاثات الغازية الضارة. ويتساءل الفيلم عن جدوى التوسّع غير المحدود في التبادل التجاري تحت راية العولمة، وهو التبادل الذي لا ينحصر في الآليات والمعدّات والمنتجات المصنّعة، بل يشمل أيضاً نقل الخضراوات والفواكه من قارة إلى أخرى خارج مواسمها الطبيعية. ويترك للمشاهد الإجابة عن هذا السؤال: إلى متى يمكن الاستمرار على هذا المنوال قبل أن نخسر عناصر التنمية والحياة نفسها؟
في تصفيات المسابقة الرسمية للمهرجان عشرون فيلماً احترافياً، بين طويل وقصير. في غابات الأمازون البرازيلية، نجد مزارعين محلّيين يحاولون الدفاع عن حقهم في إنتاج الغذاء على أراضيهم في قلب الغابة، التي تقضمها شركات زراعية وصناعية كبرى تعتمد على اقتصاد التصدير. أبطال الفيلم سكان محلّيون حقيقيون، يقاومون الاضطهاد ويواجهون الخوف بالتعاون، لِصَون حقهم في استغلال أراضيهم والحفاظ على ثرواتهم الطبيعية وعاداتهم المحلية، في مواجهة شركات متعددة الجنسية تتنكر بزي التقدّم.
«تسميم الجنّة» فيلم أميركي يكشف عن معاناة السكّان الأصليين في إحدى مناطق هاواي، حيث أقامت شركات كبرى مواقع اختبار تجريبية للبذور المعدّلة وراثيّاً والمبيدات الزراعية، التي كانت لها آثار كارثية على الزراعات والأنظمة البيئية المحلية، وأصابت المياه الجوفية والشواطئ بالتلوث. ولا يقتصر الفيلم على الخبراء، بل يعرض التجارب الشخصية لأناس أُصيبوا بأمراض سببها انتقال المبيدات إلى السلسلة الغذائية، ومزارعين محليين فقدوا مصدر رزقهم التقليدي نتيجة للتداخل الجيني بين البذور المعدّلة والمحاصيل التقليدية. وهؤلاء يتهمون الشركات الكبرى المتعددة الجنسية، المنتجة للبذور المعدّلة وراثيّاً والمبيدات، باحتكار البذور والمساعدة في انتشار الأمراض في الزراعات التقليدية، بهدف الترويج لمنتجاتهم، وتلك الشركات هي الوحيدة القادرة على مكافحة الأمراض الزراعية التي تسببت بها. ويدعو الفيلم إلى تعاون بين المزارعين حول العالم للضغط على الحكومات لحماية حقّهم في السيادة على الغذاء، ضد الشركات التجارية العالمية الكبرى ووكلائها المحليين.
في الموضوع نفسه، يعرض فيلم من بوركينا فاسو مقاومة المزارعين في ساحل غربي أفريقيا لتعدّي الشركات الكبرى على حقوقهم. وقد اجتمع المزارعون، مع الناشطين البيئيين والمثقفين والفنانين والطلاب، لإطلاق حركة اجتماعية فاعلة، لا تكتفي بالتظاهرات والمقاطعة والضغط في الشارع، بل تساعد المجتمعات المحلية، وبخاصة صغار المزارعين والنساء، على إنتاج الغذاء والحصول على دخل لدعم العائلات، مع الحفاظ على حقوقهم الطبيعية.
ويحكي الفيلم المغربي «أجساد»، بشاعرية رقيقة، قصة الحياة والموت والعلاقة بالطبيعة، والتراب، من خلال سيرة صانعي الخزف.
ومن الأفلام المؤثرة شريط عن تدريب فريق من حرّاس الغابات في موزمبيق، حيث تم تجنيد النساء للمرة الأولى. وكذلك شريط عن الصيد المفرط للأسماك في السنغال للتصدير إلى الخارج. لكن الفوائد من الدخل بالعملة الأجنبية أقل كثيراً من أضرار الصيد العشوائي على البيئة المحلّية. أما الفيلم الجزائري «أعجوبة النفايات» فيعرض قصة نجاح قرية تاوريرت في إدارة نفاياتها، عن طريق إنشاء مركز للفرز وتخمير النفايات العضوية، وظّف عدداً كبيراً من ذوي الاحتياجات الخاصة. وأدّى نجاح التجربة إلى تكرارها في قرى مجاورة عدّة، أقامت مراكز مشابهة للفرز والتسميد، عالجت مشكلة النفايات كما وفّرت وظائف لعمّال محليين، وأدخلت النساء جزءاً أساسياً في المشاريع.
ومن أقوى الأفلام القصيرة، في فئة النوادي المدرسية، شريط قصير بعنوان «الصرخة الزرقاء»، أشرف عليه مدرّس للفنون في إحدى المدارس المغربية، وأنتجه بلا ميزانية. انطلاقاً من لوحة «الصرخة» للرسام النرويجي إدوارد مونش، يحكي الشريط في أقل من خمس دقائق قصة تلميذة منشغلة إلى حد الهوس، بقضية البيئة والحفاظ على الماء من الضياع. ويصل خوفها إلى الذروة أثناء صفّ للرسم ينقل فيه التلاميذ لوحة «الصرخة»، حين تندمج كلّياً في الموضوع، فتصرخ كأنها تقول: «كفى هدراً للمياه». قوة الفيلم أنه بلا كلام، في حين الصوت البشري الوحيد فيه هو هذه الصرخة.
«جمعية تلاسمطان للبيئة والتنمية»، التي نظمت المهرجان، نموذج في العمل البيئي والتنمية الريفية على المستوى المحلي، فعدا نشاطها الفاعل داخل المجتمع، نجحت في استقطاب العالم إلى تظاهرة بيئية في جبال المغرب.
نتمنى أن تنتقل عدوى رعاية البيئة عن طريق الفن إلى جميع العرب، وأن تتوجه الفنون إلى الناس العاديين الحقيقيين وليس إلى وجهاء الصالونات الاجتماعية.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»