نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

كنت هناك

أكثر الأماكن حيوية في تونس هو تقاطع شارعين يحملان اسمين عظيمين «الحبيب بورقيبة» و«شارل ديغول».
كنت هناك. لم يكن لي من سبب للذهاب إلى ذلك المكان المتدفق حيوية وصخباً، سوى استعادة الذكريات، فأنا ممن قضوا جزءاً مهماً من حياتهم في ذلك البلد حين فُرض علينا كفلسطينيين أن نغادر شاطئ المتوسط في بيروت إلى شاطئ المتوسط على بُعد ثلاثة آلاف كيلومتر.
كانت تونس في تلك الحقبة قد تحولت من بلد سياحي ساحر وهادئ إلى عاصمة سياسية مؤقتة للعالم العربي، ولحلم الفلسطينيين بانتصار ثورتهم وقيام دولتهم.
العاصمة المؤقتة للعالم العربي توافد إليها الآلاف من مختلف الأقطار والجنسيات، اندمجوا بأهل البلاد، فالتونسي منفتح على الآخر، فنشأ جيل عربي أخواله تونسيون، وحين عاد الفلسطينيون إلى بعض حلمهم وعاد الوافدون إلى العاصمة الدائمة القاهرة ظلّت أيام تونس هي الأحلى والأكثر رسوخاً في الذاكرة.
كنت هناك. كانت حركة الناس تشي بأن الإرهاب ابتعد عن الأبواب، وأن صيف هذا العام سيحمل بشائر عودة الموسم السياحي إلى ازدهاره وثرائه. كانت النخب السياسية منهمكة في أزمتها المعقدة، وهذا أمر لا يثير المخاوف كثيراً في بلد مثل تونس، وحين وقع الانفجاران خاف التونسيون من استئناف دوامة الإرهاب، غير أنهم، وهذا ما جدد ثقتي بشعب تونس، تغلبوا على خوفهم باستئناف الحياة الصاخبة، وبدا لي وأنا وزملائي نحتسي الشاي الأخضر على مقهى رصيف في شارع بورقيبة أن ما كان بالأمس نُسي وانتسب إلى الماضي، غير أن قنبلة من نوع آخر انفجرت وكان دويّها قد ملأ النفوس بالرعب حين أُعلن عن تعرض الرئيس الباجي قايد السبسي، وهو من جيل العظيم بورقيبة، لأزمة صحية وُصفت بالحرجة ما استدعى نقله إلى المستشفى العسكري.
كانت صيغة البيان توحي بأن الرجل إن لم يكن فارق الحياة بالفعل فهو في سبيله إلى ذلك خلال ساعات.
قنبلة المرض والحالة الصحية الحرجة للرئيس استعادت من جديد قنابل التفجير الانتحاري كما لو أنها ستحدث غداً، فنام الناس ليلتهم على قلق وكانت ليلة مليئة بالكوابيس والتوقعات المخيفة.
غادر الرئيس المستشفى بعد أن نجا من الأزمة الصحية الخطيرة أو الحرجة، بُثّت صور للرجل الذي يذكّرنا ببورقيبة وهو في بيته يعانق أحفاده، فهدأت النفوس ونام التونسيون ليلة هادئة.
أمّا نحن الزائرين حَمَلَة الذكريات الجميلة عن ذلك البلد الاستثنائي، فقد واصلنا ما جئنا من أجله، كان احتشاداً نوعياً لم يغب عنه أي عربي، إنه الاحتفال بأنجح مؤسسة انبثقت منذ خمسين سنة عن جامعة الدول العربية؛ إنه اتحاد الإذاعات العربية.
لم أبالغ في وصفه بالأنجح لأنه عَبَر ممراً معقداً أخفق كثيرون في عبوره، وهو النأي بالمؤسسة ووظائفها عن الخلافات العربية التي لم تتوقف يوماً منذ تأسيس الجامعة الأم، فكرّس الاتحاد نفسه، على صعوبة ذلك، مؤسسة مهنية تضاهي نظيراتها من المؤسسات العالمية.
كنّا قلقين من الانفجارين والعارض الصحي الذي ألمَّ بالرئيس، فكّرنا في إلغاء الاحتفالات الفنية التي تواكب عادةً مناسبةً على هذا المستوى إلا أن تونس بخصائصها وناسها وتراثها قالت لنا استمروا بما أنتم فيه فلن نمنح الإرهاب أي جائزة على أي مستوى.