د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

عشرون عاماً من المفاوضات

هذه هي الفترة التي استغرقتها المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي و«ميركوسور» التكتل الاقتصادي لدول أميركا اللاتينية، فقد بدأت المفاوضات في شهر 6 سنة 1999، وأعلن التحالفان عن وصولهما إلى اتفاق مشترك يوم الجمعة الماضي، على هامش قمة العشرين المقامة في مدينة أوساكا اليابانية. واحتفلت دول التحالفين بالتوصل لهذا الاتفاق، وهو ما بعث أجواء إيجابية في القمة التي تهدف إلى تحفيز التجارة العالمية، في ظل الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، وانخفاض النمو الاقتصادي حول العالم.
ويهدف هذا الاتفاق إلى إلغاء الرسوم الجمركية على عدد كبير من السلع بين التحالفين، وهو من الضخامة بحيث تقدر الرسوم الجمركية الممكن تفاديها على الصادرات الأوروبية وحدها بأربعة مليارات دولار.
وتستفيد دول الاتحاد الأوروبي من هذه الاتفاقية بالوصول إلى أسواق أميركا الجنوبية من خلال دول «ميركوسور» الأربعة، وهي البرازيل والأرجنتين والأورغواي وبارغواي، وهي دول تشكل ما يقارب ثلاثة أرباع الناتج القومي لأميركا اللاتينية، بعدد سكان يفوق 260 مليون نسمة. كما تعطي هذه الاتفاقية ميزة جوهرية للدول اللاتينية الأربع، وهي الدول التي طالما تضررت من كونها بعيدة جغرافياً عن الدول الثرية اقتصادياً.
وتعد هذه الخطوة الأهم لتكتل «ميركوسور» الذي تأسس في بداية التسعينات، كما أن هذه الاتفاقية هي الأكبر على الإطلاق بين تحالفين. وسبق لهذا التحالف الوصول لاتفاقية إعفاء جمركي مع مصر في عام 2017، بعد ما يقارب 10 سنوات من المفاوضات.
ورغم أهمية هذه الاتفاقية لكلا التحالفين، فإن أطرافاً انتقدتها بشدة، وخصوصاً من الطرف الأوروبي؛ حيث إن وصول المنتجات الزراعية من دول أميركا الجنوبية إلى أوروبا قد يسبب ضرراً للمزارعين الأوروبيين. وتعرف جمعية القطاع الزراعي بأوروبا بنفوذها وقوتها في الأوساط السياسية، كما أن المزارعين يحظون بتعاطف شعبي كبير، ولعل أقرب مثال على هذا التأثير ما قام به المزارعون الإسبان من مظاهرات تجاه المنتجات الزراعية المغربية المستوردة إلى دول الاتحاد الأوروبي. كما أن التخفيض الجمركي على اللحوم المستوردة من أميركا اللاتينية قد يضر بالقطاع ذاته، حتى مع كون الاتفاقية تنص على تحديد الكمية المستوردة.
إلا أن الاتحاد الأوروبي قد يغض النظر عن هذه الاحتجاجات، بسبب أن السوق اللاتينية تشكل تعويضاً عن السوق الأميركية المضطربة بتأثيرات الحرب الاقتصادية، وتحديداً في قطاع صناعات السيارات. ويبدو أن دعم الرئيس الأميركي لمصانع السيارات الأميركية جاء على حساب السيارات الأوروبية، وهي التي قد تتعرض مستقبلاً لرسوم جمركية إضافية، في حال انتهت المهلة المحددة بين الطرفين دون الوصول إلى اتفاق. ولذلك كان الوصول إلى سوق أميركا اللاتينية مهماً لمصانع السيارات الأوروبية؛ خصوصاً مع ضخامة هذه السوق، حتى وإن كان ذلك على حساب المزارعين الأوروبيين. ويتضح جلياً أن الاتحاد الأوروبي بدأ فعلياً في إيجاد بدائل للتبادل التجاري مع الولايات المتحدة الأميركية. فقد سبق له التوصل لاتفاقية مع اليابان في فبراير (شباط) من هذا العام، سميت باتفاقية «السيارات مقابل الجبن»، دلالة على استفادة السوق الأوروبية من صناعات السيارات اليابانية، واستفادة اليابان من الإنتاج الزراعي الأوروبي. وقد وفرت هذه الاتفاقية أكثر من مليار دولار من قيمة الرسوم الجمركية على الصادرات الأوروبية. كما أن الاتحاد الأوروبي توصل قبل ذلك إلى اتفاقية مشابهة مع كندا، إلا أن كلا الاتفاقيتين – مع كندا واليابان – لا تقارنان بضخامة مثيلتهما مع أميركا اللاتينية.
إن مبدأ التجارة الحرة من أهم ما اتفق عليه قادة قمة العشرين في أوساكا، وحتى مع اتفاقهم على إعادة تشكيل لوائح منظمة التجارة العالمية، فإن المراقب يلاحظ إعادة تشكيل الأسواق حول العالم. فالدول المحيطة بالصين استفادت من تضرر الصين من الحرب الاقتصادية، والولايات المتحدة أعادت تشكيل اتفاقيتها مع كندا والمكسيك، ودول الاتحاد الأوروبي بدأت في تشكيل تحالفات تجارية جديدة، وعلى الرغم من أن المفاوضات بدأت منذ أكثر من عشرين عاماً، فإن الوصول إلى اتفاقية في هذا الوقت تحديداً لم يكن بالصدفة المحضة، فهو يعطي الاتحاد الأوروبي قوة في مفاوضاته مع الأميركيين بإيجاده بدائل إضافية.
ولكن السؤال المطروح: إن كانت هذه المفاوضات استمرت لعقدين من الزمان بين الأوروبيين واللاتينيين، بوجود أطراف تسعى إلى التوصل إلى اتفاقية، فكم ستستغرق المفاوضات بين الأميركيين والصينيين الذين لا تزيدهم الأيام إلا عناداً وتمسكاً بآرائهم؟