إميل أمين
كاتب مصري
TT

الإشكالية الإيرانية والخيارات الأميركية

هل من فارق بين المشكلة والإشكالية؟
فلسفياً تعلمنا منذ وقت طويل أن المشكلة هي قضية تقليدية وكذلك حلها اعتيادي ضمن الخيارات المعروفة والمتاحة والمباحة للجميع، فيما الإشكالية فهي عقدة مستعصية تتطلب طروحات وشروحات من خارج الصندوق، وأفكاراً إبداعية لا معطيات تقليدية من أجل مواجهة تعقيداتها وتشابكاتها.
تبدو الأزمة الإيرانية اليوم قضية إشكالية، وعلى هذا الأساس يجري البحث أميركياً بنوع خاص في الخيارات المثيرة التي تحتاج إلى ابتكار وتجديد، وبالقدر نفسه لفاعلية وحسم.
تساءل الكثيرون خلال الأيام الماضية: «هل أحجمت واشنطن عن الرد على طهران، وهل ستبقى مكتوفة الأيدي تجاه ما هو متوقع من تصعيد إيراني آت لا ريب في ذلك، طالما مضى الرئيس ترمب في إزهاق الصبر الاستراتيجي الإيراني عبر العقوبات القاسية والمضنية؟».
الجواب يحتاج إلى قراءة في المعكوس لتصريحات حسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، التي أشار فيها إلى أنه إذا رغب الرئيس ترمب في وقف الحرب، فعليه أن يخفف العقوبات.
التصريح المتقدم إقرار صريح غير مريح بأن إيران تعتبر ذاتها في حالة حرب حقيقية، تستخدم فيها ما هو متاح لها في إلحاق الضرر بالطرف الأميركي، وبحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
والشاهد أنه حال قمنا باستدارة عكسية لتصريح آشنا سيكون المنطوق كالتالي: إنه كلما زاد ترمب عقوباته، سوف تزداد ضراوة الاعتداءات الإيرانية، سواء التي يقوم بها الوكلاء، وبنوع خاص الحوثي في اليمن، أو «الحشد الشعبي» في العراق، وكذلك التي يقف وراءها «الحرس الثوري» في الداخل.
يكاد المرء يوقن اليوم بأن أحد خيارات الجانب الأميركي موصول بتعميق الشرخ الإيراني الداخلي، وإضعاف النسيج الاجتماعي للإيرانيين؛ عسكراً ومدنيين مرة واحدة.
أما المدنيون فإنهم يئنون تحت سوء الأحوال المعيشية، بعد أن تسربت مليارات إيران إلى الأطراف الميليشياوية، تهيئة لمعركة الدفاع عن المركز، وبات الشعب يعاني من ضنك عيش حقيقي، جعله يرفض كل المطلقات التي تتلى عليه آناء الليل وأطراف النهار منذ أربعة عقود.
العسكر الإيرانيون بدورهم تكاد تنقسم أرواحهم في داخلهم، بين قوات الجيش الاعتيادية، ووحدات «الحرس الثوري» ذات اليد العليا، ويبدو أن هؤلاء هم الخاسر الأكبر، وهم كذلك بالفعل من جراء جميع العقوبات الأميركية المفروضة عليهم فرضاً، ولهذا في غالب الأمر هم من يبادرون إلى إشعال المشهد، سيما أن شهوات قلب المرشد خامنئي تتسق طولاً وعرضاً، شكلاً ومضموناً مع رغبة حسين سلامي وقاسم سليماني، في إحالة المنطقة إلى جحيم مستعر.
نهار الأحد، كان الرئيس ترمب يضع النقاط على الحروف، ويبعث علانية برسائله إلى الإيرانيين عسى أن يكون فيما بينهم رجل رشيد.
يؤكد ساكن البيت الأبيض أنه ما من تحذيرات أرسلت إلى الإيرانيين بعد اعتدائهم على الطائرة المسيّرة، وأنه لا يزال يرى أن إيران تريد التفاوض والتوصل إلى اتفاق.
ترمب الذي وصفناه أكثر من مرة بأنه رئيس لا دالة له على العمل السياسي، يدهشنا في واقع الأمر هذه المرة، إذ إنه تصرف بدبلوماسية عالية المستوى، وبعملياتية فائقة الأهمية.
من جانب فوّت ترمب على الإيرانيين فكرة المظلومية التاريخية، وقطع عليهم طريق البكائيات والمراثي التي يجيدونها، فلو كان قصف قواعد الصواريخ التي أسقطت الطائرة أو غيرها من المواقع العسكرية الإيرانية، لكان أعطى الملالي فرصة ذهبية لاستجماع كلمتهم، وتوحيد صفوفهم، تحت راية المرشد مرة وإلى أمد بعيد، وكان الخروج على مثل هذا الإجماع يعد خيانة قاتلة.
عطفاً على ذلك لو فعلها ترمب، لكانت فرص الإجماع الدولي ضد إيران تتقلص، على العكس من المشهد الآني، وفيه الجميع قاب قوسين أو أدنى من الحكم النهائي على النظام الإيراني.
في مواجهة الإشكالية الإيرانية لم يقف ترمب حائراً أو مغلول اليدين، ولا يمكن لرئيس دولة بحجم الولايات المتحدة أن يفعل ذلك، سواء اتفقنا معها أو افترقنا عنها، فمحاربة الحقائق أمر لا يفيد.
في الليلة عينها سلكت واشنطن طريقاً غير تقليدي يحتاج إلى حديث مطول، إنها حروب الجيل القادم، الحروب السيبرانية، تلك التي أدت إلى تعطيل أنظمة الكومبيوتر الإيرانية المستخدمة في إطلاق صواريخ وقذائف، وبهذا أضحت تلك الوحدات مشلولة بالفعل.
خيارات واشنطن بها ما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، والتعبير هنا لهنري كيسنجر، وزبيغنيو بريجنسكي وكلاهما من أساطين أميركا الإمبراطورية، وغالباً ما كانا يتحدثان عن الأسلحة الإيكولوجية التي طورتها أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أسلحة تسخر البيئة والطبيعة لخدمة أغراضهما وإلحاق أكبر الأذى بالآخرين.
وبينهما تبقى هناك خيارات الحروب ذات الطاقة الكهرومغناطيسية وقنابلها التي تستثني البشر من الخسائر، وتعطل كل ما له علاقة بالدوائر التي تعتمد الطاقة.
خيار ترمب الجديد هو بناء تحالف أممي، وما اجتماع الثلاثاء بين روسيا وأميركا وبمشاركة إسرائيل وعلى أراضيها إلا بداية بلورة هذا الطرح الواسع، ويمكن للمرء أن يضيف بريطانيا بعد فشل زيارة وزيرها أندرو موريسون إلى طهران، وقد استبقت «الصنداي تايمز» بالقول إن واشنطن تعتقد أن لندن شددت على موقفها إزاء إيران وستقدم لها دعماً في أي نزاع محتمل مع الجمهورية الإيرانية.
التعقل الأميركي لا يعني الضعف... فليسأل الإيرانيون، وعند جون بولتون الجواب المخيف.