عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

حرب الخليج المؤجلة

لا حديث يعلو في العالم على الحديث عن مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني في مياه الخليج العربي، هذه الحرب التي كانت تتصاعد في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ خروج إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق النووي مع إيران الذي هو بحق أسوأ اتفاق في التاريخ.
تجرأ النظام الإيراني على إسقاط طائرة مسيّرة أميركية فوق المياه الدولية بصاروخ فبلغت المواجهة حافة الهاوية واستعد العالم لضربة عسكرية أميركية تعيد الصواب إلى عقول قادة النظام الإيراني وكانت الضربة قادمة غير أن الرئيس ترمب تراجع في اللحظات الأخيرة قبل التنفيذ باستهداف ثلاثة مواقع عسكرية إيرانية، وبرر الرئيس قرار التراجع بأنه خشي من سقوط مدنيين في تلك الضربة.
في الواقع هذا ليس مبرراً مقنعاً أو كافياً؛ فالنظام الإيراني مسؤول عن قتل الملايين من المدنيين في الدول العربية التي عاث فيها فساداً وعن قتل الآلاف من المدنيين حول العالم عبر ميليشياته المسلحة ودعمه للجماعات الأصولية والتنظيمات الإرهابية سنياً وشيعياً، وهو يقتل شعبه ويسومه سوء العذاب منذ أربعة عقودٍ، ويستخدمه كرهينة في تعامله مع دول العالم، ولكن ربما أن الرئيس ترمب أراد أن يثبت لناخبيه على بعد عامٍ من ترشحه لدورة رئاسية ثانية أنه ليس كما يشيع خصومه الديمقراطيون داخل أميركا متعطشاً للحرب ولا مستعجلاً عليها، وهو صرح بهذا فعلاً وقال إنه ليس مستعجلاً للتعامل مع ملف النظام الإيراني.
فرض ترمب مزيداً من العقوبات على النظام الإيراني، إضافة لما سبق، وهي العقوبات الأقسى منذ أربعة عقودٍ، ولكنّه بعد تراجعه عن الرد على إسقاط إيران الطائرة الأميركية المسيّرة أصبح عرضة لنقد حقيقي يتعلق بسؤالين: ما هو الفارق بينه وبين الرئيس السابق أوباما الذي يصفه ترمب بالضعف والتردد في رسم خطوط حمراء ثم عدم الرد عند انتهاكها؟ وهل أخطأ ترمب في الخروج من الاتفاق النووي بوصفه الحل الأفضل والوحيد للتعامل مع النظام الإيراني كما هي دعاية خصومه الديمقراطيين؟
النظام الإيراني يفتش عن حربٍ تحفظ ماء وجهه وتقنع العالم بأنه لا سبيل للتعامل معه إلا عبر الاتفاق النووي وأنه لن يقدم أي تنازلات غير ما سبق في الاتفاق النووي، وهي رسالة سياسية خطيرة لكل دول العالم بأنها يجب أن تتعايش مع سياسات النظام باعتبارها أمراً واقعاً لا مفر منه، فلا تنازل عن الصواريخ الباليستية ولا تراجع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية ولا نكوص عن استراتيجية دعم الإرهاب ونشره في المنطقة والعالم، ولا عودة للاعتراف بالقوانين الدولية ولا رغبة في الانضمام للمجتمع الدولي بل البقاء كنظامٍ مارقٍ يفرض شروطه على العالم كما يشاء.
هذه إحدى النتائج المدمرة في حال تراجعت أميركا عن فرض رؤيتها واستراتيجيتها في مواجهة النظام الإيراني، وهو ما سيشجع غيرها من الدول على الاستهانة بالإدارة الأميركية التي أظهرت حتى الآن قوة في كل الملفات المهمة لها حول العالم بحيث سيعيد خصوم أميركا النظر في جدية هذه الإدارة في إدارة الأزمات من منطلق قوة أميركا ومكانتها والعديد من الدول تراقب وتحلل وتعيد النظر.
النظام الإيراني يستعجل المواجهة لأنه لا يريد أن تتم بعدما تكون العقوبات الأميركية قد أنهكته بل يسعى لها وهو ما زالت لديه قوة لتحريك أوراقه في المنطقة والعالم، ومن هنا حرّك الميليشيات التابعة له في كل المنطقة من ميليشيا الحوثي في اليمن إلى العراق وهو يتجهز في سوريا ولبنان وإن كان يخشى التحرش المباشر بإسرائيل.
هل التراجع الأميركي عن الرد على استهداف طائرته المسيّرة هو تكتيك مرحلي في السبيل للتحضير لمواجهة واسعة مستقبلاً؟ ربما، لأن الرئيس ترمب يسعى لإعادة انتخابه في السنة المقبلة، ولأنه يفضل مواجهة نظام ضعيف محاصر ومنهك على مواجهة نظام نشط لم تزل لديه أوراق يستطيع اللعب بها، وسؤال آخر، هل سيتم الإقرار لإيران بسيطرتها على الخليج العربي ومضيق هرمز وخليج عمان؟ بمعنى أن تتحكم في ثلث إمدادات الطاقة العالمية وتصبح تحت رحمة النظام الإيراني بكل ما يحمله ذلك من أضرار طائلة على كل دول العالم ومجتمعاته وأفراده؟ هذا ليس وارداً على الإطلاق وإنما يجب البحث عن وسائل أكثر نجاعة وأقل تكلفة للمواجهة.
من المؤسف القول بأن الأمم المتحدة وموقفها في الأزمة اليمنية يساعد النظام الإيراني على نشر الإرهاب والاستمرار فيه، فضرب السعودية بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة يجب ألا يكون أمراً مقبولاً من قبل ميليشيا الحوثي ولا التعامل معه على أنه أمرٌ مسلمٌ به لا يتم البحث فيه ولا يعني التزام السعودية والتحالف العربي بالقوانين الدولية ومراعاتها أنها لن ترد على الانتهاكات بالشكل المناسب وبالطريقة التي تحمي المصالح والسيادة والشعوب.
دول الخليج العربي دولٌ حليفة لأميركا وللدول الغربية، وهذا أحد عناصر قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي ستستمر في هذه السياسة الناجحة ولكنها تحتاج لأكثر من الكلام والتصريحات من حلفائها، لا من أميركا وحدها بل من الدول الأوروبية أيضاً، وهي تحمّلت كثيراً سياسات إيران المعادية لها والمستهدفة لأمنها واستقرارها وأظهرت ضبطاً عالياً للنفس والتزاماً بالمواثيق والمعاهدات الدولية ولكن هذا كله قد لا يستمر حين يتم التغاضي عن النظام الإيراني من قبل المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي.
لا يمكن إغفال أن خبايا السياسة لا تظهر في الإعلام وتحديداً حين يتعلق الأمر بقرارات الحروب والمواجهات الكبرى وأن الدولة التي تكشف كافة أوراقها هي دولة ضعيفة وليس لديها ما تخسره أو أنها غير جادة في استراتيجيتها المعلنة، وإدارة ترمب أبدت حتى الآن جدية غير مسبوقة في مواجهة النظام الإيراني ومن هنا تأتي خطورة أي تراجعٍ عن هذه المواجهة وتحديداً في الخطوات الأخيرة لأنه سينشر رسائل خاطئة للنظام الإيراني ولأتباعه وداعميه حول العالم.
حماية خطوط الملاحة الدولية وضمان تدفق إمدادات الطاقة ليسا مهمة دول الخليج وحدها بل هي مهمة دول العالم ومؤسساته الدولية وبالتالي فإن الإضرار بها هو ضررٌ دولي يجب على العالم التعامل معه ومواجهته.
أخيراً، مواجهة النظام الإيراني هي حرب الخليج الثالثة والمؤجلة حتى الآن وما لم يغير النظام الإيراني سلوكه واستراتيجياته فهي قادمة دون شكٍ.