ليونيد بيرشيدسكي
TT

عن سياسات الاحتجاج في روسيا والصين

يعد النصر الظاهري للمتظاهرين في هونغ كونغ وحالة التهدئة المشهودة في روسيا ابتعاداً مثيراً للاهتمام عن الممارسات المعتادة لنظامي حكم معروف عنهما عدم اعتماد الوسائل العكسية في إدارة الشؤون الداخلية. فهل من الممكن أن يكونا قد ابتغيا مقاربة وصفها أحد طلاب الاستبدادية بـ«احتواء التصعيد»؟
كانت الحكومة الشيوعية الصينية تواصل قمع وتقليص الحريات المدنية البريطانية النكهة في هونغ كونغ عبر السنوات الماضية، وكان الأسلوب المعتمد لدى الحكومة هو تجاهل احتجاجات الجماهير على نحو مستمر. وأسفرت ثورة المظلة لعام 2014 في هونغ كونغ عن استحداث نظام انتخابي أكثر تقييداً. وفي أبريل (نيسان) الماضي، أدين تسعة من قادة ثورة المظلة في هونغ كونغ بالتآمر والتحريض على إثارة الرأي العام وتعكير صفو البلاد. وحتى في هونغ كونغ التي تتصف بنسبة معتبرة من الليبرالية، فإن النظام الحاكم الذي سحق مظاهرات ساحة تيانانمن لم يتراجع في وجه الاستياء والسخط الشعبي الجديد.
ولكن هذه المرة بأسلوب مختلف، إذ أسفرت الاحتجاجات عن إجبار الحاكمة التنفيذية المؤيدة لبكين في هونغ كونغ (كاري لام) على إرجاء مشروع قانون يسمح بتسليم المجرمين من هونغ كونغ إلى السلطات الصينية، الأمر الذي كان يعد بمثابة ضربة ساحقة إلى استقلال المنطقة الاقتصادية الخاصة هناك.
على صعيد متصل في روسيا، أدت التدخلات الشخصية من قبل الرئيس بوتين إلى إطلاق سراح الصحافي الاستقصائي إيفان غولونوف، الذي كان قد اعتقل إثر اتهامات ملفقة على ما يبدو، ثم إلغاء خطة لاستبدال حديقة عامة من خلال كاتدرائية جديدة في مدينة يكتارينبرغ. ومن المنتظر إصدار المزيد من تدابير التهدئة مستقبلاً، حيث من المقرر أن يعقد الرئيس الروسي العرض السنوي للماراثون الذي يحضره إلى جانب الناخبين. ومن المتوقع إعلان تراجع الحكومة عن بناء مكب ضخم للنفايات في منطقة أرخانغيلسك الشمالية، ذلك المشروع الذي أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة بين السكان المحليين وقوات الشرطة في المدينة.
والفارق بين الموقفين الصيني والروسي واضح للغاية: كانت الاحتجاجات والتنازلات التي شهدتها هونغ كونغ كبيرة للغاية. ولكن التماثل في تراجع الأنظمة مع عدم اضطرارهم إلى ذلك فعلياً بات يثير المزيد من الاهتمام عن ذي قبل.
ومن المؤكد أن كلا الرئيسين الروسي والصيني يدرك أن التحرر التام من القيود يمكن أن يكون منحدراً زلقاً. وفي دراسة نشرت في عام 2017، وصف بروفسور السياسة دانييل تريسمان من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس، والذي عكف على دراسة كافة الحالات الديمقراطية من عام 1800 وحتى عام 2015، ذلك الأمر بأنه من أكثر الأخطاء الشائعة المهلكة التي يرتكبها الحكام المستبدون.
ومن الأخطاء الأخرى التي ذكرها البروفسور تريسمان الإفراط في تقدير الدعم الشعبي والإفراط في القمع. ويستند كل نظام حاكم على درجة من درجات الدعم الشعبي، ومن الصعوبة البالغة تحقيق التوازن بين القمع والتنازل بصورة صحيحة.
في عام 2014، وصفت دانا موس، من جامعة كاليفورنيا، حالة المملكة الأردنية في الشرق الأوسط والتي تمكنت من تفادي انتفاضات الربيع العربي. وكان الحكومة الأردنية قد شرعت في التسوية مع أولئك الذين كانت مطالبهم قابلة للتفاوض.
ومن المرجح أن دينامية «احتواء التصعيد»، كما وصفتها الأستاذة موس، هي ما نشهده أمام أعيننا اليوم في روسيا والصين. ومن الواضح أن الرئيس الروسي يشعر بحاجته إلى توخي الحذر الشديد، إذ إنه لم يعد يحظى بنفس القدر من التأييد الشعبي بنسبة 80 في المائة السابقة؛ نظراً لأن الشعب الروسي بلغه الضجر من المغامرات العسكرية الخارجية مع تفاقم المشاكل الداخلية القديمة في البلاد من دون تغيير. أما الرئيس الصيني، من جانبه، في غير حاجة إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في بلاده في خضم الحرب التجارية القاسية التي يخوضها ضد الولايات المتحدة راهناً.
ويبدو أن كلا الرئيسين على استعداد لبذل قدر من التنازل على أسس غير حيوية. وحتى من دون قانون تسليم المجرمين الذي تريد الصين إقراره في هونغ كونغ، فلا تزال الأخيرة قيد سيطرة بكين بصورة أو بأخرى، وإذا خرجت عن المتظاهرين أي إشارة إلى التخطيط لكسر تلك السيطرة، فسوف تنشأ عن بكين ردود فعل صارمة. وفي روسيا، لم يكن اعتقال الصحافي الاستقصائي إيفان غولونوف ولا بناء الكاتدرائية من المهمات الأساسية بالنسبة للرئيس الروسي، ولقد ساعده التدخل بصفة شخصية في كسب بعض النقاط الشعبية لصالحه، ولكن عندما واصل المتظاهرون الاحتجاجات ضد أوامر الاعتقال الجائرة في أعقاب إطلاق سراح إيفان غولونوف، تم اعتقال ما لا يقل عن 500 مواطن دفعة واحدة في موسكو.
يملك النظامان الحاكمان في روسيا والصين الكثير من الوقت والموارد التي تخول لهما بناء نسختهما الخاصة، والتي انتهى الأمر فيها بالنشطاء إلى إدراك أنهم قادرون على لفت الانتباه عبر الإعلان عن المطالب الصغيرة المعقولة مع إبداء الاستعداد للتفاوض بشأنها، في حين أن المطالبة بالمزيد سوف يؤدي بهم إلى الاشتباك والاعتقال. تتعلم الأنظمة الحاكمة وتزداد خبرتها عبر المسير والتعامل المستمر، ويجدر بالنشطاء أن يتعلموا وفقاً لذلك أيضاً.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»