أن تكون كل سوريا منطقة آمنة أو على الأقل منها شرق الفرات المحرر من الإرهاب والاستبداد، ثم لاحقاً كامل شمال سوريا بعد تحريره من الإرهاب والاحتلال التركي، له دواعٍ تاريخية تضاف إلى دواعيه الآنية والمستقبلية؛ في مقدمتها ألا تتحول مناطق من سوريا إلى أجزاء مسيّرة في طرق ضيقة تتناقض وحقيقة التنوع والتعدد السوري.
سوريا متجذرة في التاريخ منذ آلاف السنين، وظهرت لأول مرة في الجغرافيا الحالية بوصفها ناتجاً من نتاجات أفظع التقسيمات التي طالت الشرق الأوسط فيما سميت «اتفاقية سايكس - بيكو» عام 1916. هذا الأمر لا يتوقف عند سوريا؛ إنما يتعلق بكل المنطقة؛ إذ إن تركيا، على سبيل المثال، التي لم تكن بالمتجذرة في التاريخ لكنها أيضاً ظهرت لأول مرة وفق جغرافيتها الحالية في العقد الثاني من القرن العشرين، كان اسمها بلاد الأناضول. سمّاها الإغريق بذلك بمعنى «شروق الشمس» أو «الشرق». كما أطلق الإغريق في مغامرة الإسكندر للهيمنة الأولى في التاريخ، اسم «كردستان»... يوثق ذلك ويل ديورانت في «قصة الحضارة». أُعيد ترداد هذا الاسم في عهد الدولة العباسية مرة أخرى في القرن الثاني عشر.
مثلما أن الأفراد لا يسمون أنفسهم؛ فإن هذا انطبق على الجماعات أيضاً. «الغير» في تاريخ الشرق الأوسط هو من سمّى الآخر. وهذا صحيح إلى حد ما ودليل معافاة وعلى قوة ترابط الوشائج، وربما كأثر مستقبلي خيِّر بجذر تاريخي في أن خيار العيش المشترك هو الصواب. غير أن حاضرنا في ذلك غير متصالح مع تاريخنا؛ ليس في قضية الأسماء فقط؛ إنما في الطرق والوسائل والاستراتيجيات والهويات والدساتير المفروضة على الشرق الأوسط؛ وسوريا جزء مهم منه... كلها باتت الآن في معرض الحطب الذي يلزم لإذكاء الحرائق والحروب وجعلها مستعرة على طول الخط.
أجوبة مُرّة تتبعها انزلاقات خطرة يجدها كل من يسأل: ما الذي يحدث في حال إفشال الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؟ فإما الاحتلال التركي... ولن يتوقف الاحتلال عند ذلك؛ إنما يتسلل عبر أذرع أنقرة من «إخوانها المسلمين» ليصل إلى كل شمال أفريقيا وكل الخليج، وإما إفشال الإدارة الذاتية لحساب تعبيد «طريق الحرير الإيرانية» من طهران إلى بيروت... وإما عودة النظام السوري المركزي الاستبدادي على شاكلة 2011 وما قبلها.
إن الأسلم جداً، ولصالح جامعة الدول العربية، أن تبقى الإدارة الذاتية، وأن يتم دعمها لتتحول إلى «المنطقة الآمنة» في ظل مكانتها التي ينطبق عليها وصف أنها خط المجابهة الأولى الأساسية لمنع المنطقة من مزيد من الانزلاق؛ ولعودة سوريا المأمولة بوصفها بلداً لكل السوريين بمختلف تكويناتهم المجتمعية ومكوناتهم الإثنية القومية والدينية الطائفية. وسيكون من الصواب إلى درجة كبيرة أن الإدارة الذاتية و/أو «سوريا الإدارات الذاتية» هي الترجمة الفعلية لناموس الحراك الثوري السوري في آذار 2011 «الشعب يريد التغيير» حينما خرج شعب سوريا من حوران؛ السهل والجبل، إلى القامشلي، يردده بعقل وقلب واحد.
كما أنه لصالح التحالف الدولي (79 دولة) بقيادة أميركا ضد الإرهاب أن يتم تمكين هذه الإدارة الذاتية وتحويلها لـ«منطقة آمنة» من بعد أن أنهوا معاً «داعش» الإرهابي جغرافياً. ولا نظن أن موسكو في المستقبل القريب تبقى على خلاف مع ذلك. ولا يستثنى من ذلك حتى أنقرة المتحججة دوماً بأن أمنها القومي يطاله الخطر من هذه الإدارة الذاتية، والجميع يعلم أن رصاصة واحدة لم تطلق من الجانب السوري على تركيا منذ تأسيس «وحدات حماية الشعب والمرأة» في نهاية عام 2011؛ لا بل إن هذه الوحدات أنهت احتلال «جبهة النصرة» و49 كتيبة لرأس العين (سريي كانيه) في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، ولاحقاً كل الاحتلالات الإرهابية، على يد «قوات سوريا الديمقراطية»... وكلها دخلت من الجانب التركي بالطريقة نفسها التي دخل بها عناصر «داعش» المرتزق بحشد وتدريب وتوجيه من أنقرة، إلى سوريا... بالطريقة نفسها التي تدعم بها أنقرة اليوم «جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام)» في إدلب.
رغم أنه لا تفاصيل حاسمة معلنة حيال «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا، فإنه توجد معايير تتبع بدورها ثوابت وطنية. ومن ذلك؛ فإن «قوات سوريا الديمقراطية» بوصفها رمزاً سورياً إقليمياً عالمياً ضد الإرهاب، بمقدورها أن تتولى مهمة الشأن الأمني في «المنطقة الآمنة» وبدعم من التحالف الدولي ومن الجامعة العربية في الوقت نفسه. واستناداً إلى الثوابت نفسها، فلن نكون إلى جانب من يسأل أن تحظى أنقرة بدور في هذه المنطقة. تركيا اليوم تحتل جرابلس والباب وأعزاز وعفرين ومناطق من إدلب وشمال اللاذقية، وعينها على تل رفعت والشهباء حلب... لا بل إنها تتحين أي فرصة في أي صيغة لتحتل شمال سوريا وشرق الفرات وكامل إقليم كردستان العراق دفعة واحدة تلحقها دفعات - كما أسلفنا - تنفيذاً لما تسميه تركيا «الميثاق الملّي».
«المنطقة الآمنة» حتى تتحقق يجب أن تكون «آمنة»... غير «أمنية»... غير معزولة... ضامنة انحسار كل دور إقليمي غير نافع؛ ممهدة لحل الأزمة السورية... تمهِّد نحو «سوريا دولة لا مركزية ديمقراطية». يبقى القول إن شهر يونيو (حزيران) الحالي مفصلي في مستقبل موازين الجيوبوليتك الدولية... من كراكاس إلى دمشق، ومن أوكرانيا إلى ليبيا، ومن السودان إلى قبرص، ومن تركيا إلى اليمن... إلى إيران. العالم كله يغلي. ربما حان وقت انفكاك هذه الملفات... وحتى الفيَلة تحتاج في رقصها إلى ميادين «آمنة»؛ لا نيران فيها... بالأخص النيران الصديقة.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:7 دقيقه
TT
عن «المنطقة الآمنة» الممهِّدة لحل الأزمة السورية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة