جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

الاقتراب من لحظة الانتقال إلى نظام عالمي جديد

بدأ مبكراً اهتمامي بالمستقبل. انشغلت بعض عمري بقراءة وتفسير مؤشراته، وقضيت وقتاً غير قصير أتسلى بمقارنة مستقبل تخيلناه بحاضر عشناه. أفهم وأعرف بعض دوافع هذا الاهتمام في مراحل مبكرة في مسيرة تكويني، ولا أفهم بنفس الدرجة والوضوح دوافع الاهتمام في مراحل متقدمة جداً من هذه المسيرة. عشت أعتقد أن المستقبل مصلحة مباشرة لكل إنسان في عمر الشباب وعمر الوسط، ومصلحة غير مباشرة له في الأعمار التالية. أقبل أحياناً الرأي القائل بأن انشغال كبار السن بالمستقبل رفاهة، فالأمر لا يخصهم، لعله الحنين المشروع إلى ماضٍ بعينه، أو الانغماس، وهو أيضاً مشروع، في مراقبة الغيب وتذوق الأماني الحلوة.
>>>
أبناء جيلي عاشوا عوالم شتى، بل لعلنا عشنا بالفعل في ظل كل الصيغ المتعارف عليها بين الأكاديميين والمتخصصين في نظرية العلاقات الدولية. وُلدنا في السنوات الأخيرة لمرحلة التعددية القطبية، عالم تقوده، وفي النهاية تخربه، دول كبرى تتصارع للاستيلاء على ثروات في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. عشنا، أو عاش قطاع كبير من جيلي كأطفال سنوات الحرب العالمية الثانية، ليشبوا بعدها في عالم جديد، عالم القطبية الثنائية. نضج وعينا السياسي على نار وتوافقات وأحلاف الحرب الباردة. كنا شهوداً على روسيا السوفياتية وهي تعرقل نمو الصين حرصاً على استمرار عالم القطبية الثنائية، وقد أدرك ماو تسي تونغ هذه الحقيقة مبكراً. كنا أيضاً شهوداً على تجربة جس النبض التي مارسها هنري كيسنجر مع الصين. كان كيسنجر مثل القادة الروس يعرف أن الصين صاعدة لا محالة، موسكو أرادت وقف الصعود، أما واشنطن فأظنها أرادت أن يكون لها يد في هذا الصعود وفي صنع توجهات قادته.
>>>
انتهت الحرب الباردة بانتصار الولايات المتحدة لتجد نفسها قطباً أوحد. المؤكد أنها لم تكن مستعدة لتحمل هذه المسؤولية رغم أنها جرّبت القيادة منفردة في إطار المجموعة الغربية أو الغرب كما اصطلحوا على تسميته. لم ينعم العالم بالسلام الموعود به، إذ سرعان ما هيمن عذلى أجهزة صنع السياسة في واشنطن عناصر من صقور اليمين المتطرف، بقي منهم في ساحة التخريب وممارسة العنف جون بولتون، الذي يتولى حالياً منصب رئاسة مجلس الأمن القومي. جاءت نهاية عالم القطب الواحد نتيجة تطورات مهمة منها صعود الصين، ولكن أهمها من وجهة نظري سقوط أميركا في العراق. أستخدم هنا كلمة «سقوط» لأعني بها ما هو أكثر من الفشل. أعني اكتشاف أميركا لنفسها دولة عظمى عاجزة عن تحقيق نصر حاسم في حربين ضد دولتين صغيرتين من دول العالم النامي. وعلى كل حال لا يخفى على المتخصصين والخبراء حقيقة أن أميركا بعد الحرب العالمية الثانية لم تنتصر في أي حرب خارجية باستثناء حرب الرئيس ريغان ضد جزيرة غرانادا. لم تنتصر في كوريا ولا في فيتنام ولا في العراق أو أفغانستان. لا يفوت علينا أن استمرار الوجود العسكري في كل من أفغانستان والعراق والفشل في إعلان النصر النهائي الحاسم لأميركا في أي موقع آخر، هما من أهم أسباب السقوط المبكر لعالم القطبية الأحادية. كادت «هزائم» أميركا تصبح في آثارها التخريبية على وعي النخبة الحاكمة في أميركا كهزائم العرب غير المحسومة أو غير القاطعة، هزائم ممتدة في العمر تنخر في الوعي العربي وتدفعه إلى اختيار بدائل سيئة في السياسة والحكم كما في أي شيء آخر. أميركا مثلنا تصرفت في السنوات الأخيرة تصرفات الدولة غير الواثقة.
>>>
تعيش البشرية مرحلة من القيادة، أو اللاقيادة، الدولية تختلط فيها بقايا قطبية أحادية متدهورة بطلائع تصورات عن نمط قيادة مختلف لعالم أيضاً مختلف. أبني تصوراتي على عدد من العناصر الثابتة في معظم أنماط القيادة الدولية التي جربناها أو جرّبوها فينا. لا أنفي أو أنكر أن بعض التصورات ربما تعكس رغبات أكثر منها توقعات واقعية. إذ على الرغم من أنني أنتمي إلى جيل لا يعنيه من التفكير في المستقبل إلا الاستمتاع بصنع عوالم خائلية يتسلى بها، أو، وهو الغالب، الإصرار على الاستمرار في الحياة. هذا الجيل من كبار السن لديه ما يقول عن المستقبل حتى وإن كان يعرف أن هذا المستقبل سيكون لغيره من الأجيال، وكلها أو أغلبها مختلفة تماماً عن جيلنا في الطباع ونواحي الاهتمام والمشكلات ونوعية الحكام ونوع الحياة.
>>>
أما العناصر الثابتة التي أبني عليها تصورات عن مستقبل العلاقات الدولية وأنماط قيادتها وتوجهاتها فهي تقع بإيجاز شديد تحت العناوين الرئيسة التالية: أولاً، القضايا ذات الصفة العالمية التي يتوقع أن ينشغل بها قادة هذا المستقبل القريب. من هذه القضايا قضية الهجرة من الجنوب إلى الشمال. هذه القضية سوف تشغل أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط بأكثر مما تشغلها الآن وسوف تشغل الأميركتين. بالأمس فقط سمعت أن حرس الحدود في الولايات الجنوبية اعتقلوا من المتسللين المهاجرين من أميركا الوسطى نحو 110 آلاف شخص خلال شهر، رقم يزيد على المتوسط خلال العام المنصرم، ولا يتضمن المتسللين الذين أفلتوا من حرس الحدود والمهاجرين الشرعيين. قادة في أوروبا، وليس بعيداً في لبنان، يزعمون أن شعوبهم تختنق من أنفاس المهاجرين. هناك من القضايا أيضاً قضايا المناخ والتطرف القومي وتجديد الرأسمالية والقفزات التكنولوجية وبخاصة ثمار الذكاء الاصطناعي واستخداماته العسكرية والسياسية وانعكاساته على العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين الحكم. ثانياً، أزمة الحريات عامة والحقوق الإنسانية وظاهرة الحكم بالرجال الأقوياء على حساب احترام القانون الدولي والدساتير المحلية. ثالثاً، توازنات القوة الدولية وتوزيعها. رابعاً، مؤسسات لنظام دولي جديد تتناسب والتطورات في موازين القوة والنيات في احترام القانون الدولي والمحافظة على نظام حرية التجارة.
>>>
يبدو بغير الوضوح الكافي أن الانتقال إلى عالم جديد صار وشيكاً. انتهت مرحلة الجس الناعم للنبض، وهي المرحلة التي استغرقت العقدين الأخيرين في العلاقات الدولية وبخاصة الأميركية - الصينية، وبدأت مرحلة سمتها العنف بدرجات تصاعدية. هناك أيضاً تجربة روسية - أميركية مختلفة نوعياً وجوهرياً عن أي فترة في تاريخ العلاقات بين البلدين. هناك حالة القلق السائدة في العالم بأسره، وهناك الظاهرة الترمبية كفيلة وحدها، إنْ استمرت، بالتعجيل بالانتقال غير الناضج إلى عالم جديد أو بتمديد الفوضى.