فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

اليقين في زمن بلوغ القلوب الحناجر

اعتدتُ لمجرد أن تبدأ الأيام الشعبانية تحضير الوجبات الفكرية الإيمانية المعْرِفية للشهر الفضيل رمضان، وبحيث تكون هذه الوجبات من كُتب وقصاصات مؤجلة قراءتها جاهزة عندما يهل هذا الشهر، وتبدأ المصابيح تزيِّن المساجد، وتصدح المآذن، ويغمر الفرح محيا الصغار الذين يحملون الفوانيس، وينتشر عبْق البخور والعطور، وتبدأ روائح إعداد الحلويات الرمضانية والعصائر والمشروبات على أنواعها من الجلاب إلى العرقسوس إلى التمر الهندي.
وهذا تقليد راسخ الجذور في مصر عايشْته على مدى رمضانات عقديْن من زمن عملي الصحافي بين بيروت والقاهرة، وهو مبهج لطالما كنت مثل ملايين أنتظر بصبر المشتاق أيامه التي تتميز عن سائر أيام أشهر السنة، وبالذات الليالي الرمضانية في حي الحسين وفي ظلال الأزهر، وذلك لأن رمضان المبارك شهر حافل بكل الدروس أوجزَها الرسول بعبارة لها صفة المعادلة، وهي «الصبر نصف الإيمان والصوم نصف الصبر»، ومعها قوله «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح وإذا لقي ربه فرِح بصومه»... إلى جانب حفوله بكل أنواع الأطايب. كما أنه الشهر الذي يحلو فيه التأمل ومساءلة النفس عما فعلت فيعتذر المرء من حاله على فعْلٍ مبغوض أو غير مستحب صدر منه أو حتى عن إساءة ألحقها بغيره، ولو عن غير قصْد، وكذلك الاعتذار عن فلتة لسان، أو لتكاسل في تأدية واجب إنساني وعمل الخير. ومِن هنا قول الإمام جعفر الصادق: «إذا صُمْت فليصم سمعكَ وبصرك ولسانك».
وكما المألوف طوال الثلاثين نهاراً صوماً، أعود إلى السلف الصالح فعلاً وقولاً ونُصحاً مع وقفات تعبدية صوفية أمام مسيرة خاتم الأنبياء وصحبه ونُصحه وتعامُله مع الآخر، وأمام صفوة القوم الذين عاهدوا وثابروا وصبروا إلى أن اكتملت إشراقة شمس الدعوة التي صمدت ويتواصل صمودها أمام جاهليات مستجدة تحاول بما تقترفه من إساءات أقرب إلى الذنوب تصوير الدين الحنيف على غير جوهره كثير النقاء.
من أجْل رمضان عام 1440 للهجرة الذي هل علينا قبل ثلاثة أيام، يسرت الكاتبة المتألقة سناء البيسي لجمهور المحروسة مصر، كما لأبناء الأمة، ومنهم الكثيرون الذين يقرأون بشغف إطلالاتها السبتية في «الأهرام»، أدْسم وجبة فكرية دينية وجدانية تتمثل في كتاب («عالم اليقين» - دار نهضة مصر للنشر). ولقد بدت في كتابها هذا وكأنما تريد من فصوله الاثني عشر الحاضنة 653 صفحة، إضافة الجديد، وبكل التيسير في السرد، مما لم يسعف العمر الشيخ محمد متولي الشعراوي وكذلك الشيوخ السبعة الحاضرين في المشهد الميسَّر للإسلام محمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد الغزالي وعبد الحليم محمود ومصطفى عبد الرازق وأحمد حسن الباقوري، وكذلك الشيخ الدكتور أحمد الطيِّب... إلى جانب قامات فكرية أمثال طه حسين والدكتورة بنت الشاطئ، ساهموا خلال سنوات سبقت الرحيل في إغناء الإضاءة على السيرة النبوية، وعلى الذين خاضوا الغمار مع الرسول، ثم بعد انتقاله إلى رحاب رب العالمين، بمؤلفات.
بعد بنت الشاطئ التي كانت مؤلفاتها وكتاباتها في «الأهرام» من جملة زادنا الثقافي نحن الذين واكبْنا رفْدها المكتبة العربية بكتابات طالما أنارت معالم الطريق، يأتي كتاب سناء البيسي «عالم اليقين» في وقت تعيش بعض ديار الأمتيْن العربية والإسلامية ظاهرة تتلخص في أن القلوب المثقلة بكل أنواع الهموم بلغت الحناجر لدى بعض أُولي القوم، وبالذات في لبنان والسودان والجزائر واليمن وفلسطين والعراق وليبيا، والمسلسل لا يبدو على موعد مع التوقف كون أكثرية الناس في هذه الدول التي هي بين أغنى بلاد العالم العربي تُكابد شظف العيش، ومن أجْل ذلك بلغت القلوب بما فيها من مر الشكوى الحناجر التي عندما ثابرت وصمدت وترفعت عن الإيذاء، فإن الحناجر أطلقت صرخات كالقذائف وأحياناً كالرعود بعد البروق، وبالكثير من التأدب والوجع. وعلى ما هو حاصل في المشهد ستتواصل الصرخة تلو الصرخات إلى أن يتحقق لها القليل من الكثير الذي تتمناه.
أضافت سناء البيسي إلى ما كنا اخترناه من أمثولات في عبقريات محمود عباس العقاد عن رموز السلف الصالح، ذلك أنها قرأت وسألت وأفاضت في الاستفسار وبالكثير من الرقة في تعامل القلم مع الحدث، وبالكثير أيضاً من تقريب المجهول من المعلوم، ودائماً فيما فعلت كانت تحت سقف الثابت والمؤكد، أو ما اختصرتْه بمفردة «اليقين». كما أنها رطَّبت من جفاف ما هو معروف عن الكتب التراثية من جفاف السرد، وذلك بالسلاسة التي يتسم بها أسلوبها في معالجة قضايا ورموز دينية يُستوجب التهيب وتفادي المحاذير عند تناول تاريخها ودورها وتفسير مقاصدها، وبذلك جعلتْنا أمام استحداث تاريخ جليل مضى بإضاءة عليه محسوبة بالكثير من التنبه الإيماني. وفي تقديري أن كاتبتنا المرموقة أسست في كتابها هذا «عالم اليقين» لنهج جديد في تناول التراث الإسلامي التليد بدءاً من الدعوة قبل 1440 سنة وصولاً إلى ما هو ممتد من الزمن الآتي. فلا تعقيد في التناول ولا أحكام دنيوية مطلقة على وقائع دينية ولا تفسير شخصاني الهوى، كما لا بدعة فتاوى تأخذ من وهج دعوة وتراث رموزها من النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الذين واكبوه وأكملوا الرسالة مِن بعده.
ولهذا التحديث من جانب سناء البيسي في الكتابة عن بداية الإضاءة مع النبي الكريم، ما يفيد الجيل الحائر من أبناء الأمة العربية الذين يفتقدون إلى مَن يكتب عن الدين الحنيف دعوة وصحابة وخلفاء وأئمة ورواد فكر إسلامي مستنيرين، بما يجعلهم يستوعبون ويطْمئنون وينأون عن ظواهر مسيئة مثل «الداعشية» بعضها مستتر وبعضها بالصوت والصورة التي أمعن الواقعون في شراك توجهاتها وأفكارها و«فتاواها» تشويهاً في عقول بعض العباد ودماراً في كثير من البلاد. وكانت كاتبتُنا شُجاعة في اقتحام المسائل الدينية لكنها أجادت في الاختيار كما في التناول ودائماً تحت سقف اليقين من مبتدى كتابها إلى منتهاه الذي استلهمت لفكرته ومحتواه قول الرسول «إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين».
مع التمني بشهر صوم في الأمة تكون الحال على غير ما نعيشه من انحباس للفرح والاستقرار وتغييب لليقين، وبسبب ذلك يتراكم الكمد في القلوب وصولاً إلى انطلاق الحناجر التي تتعثر مفاعيلها أحياناً... وتثمر انقلابات تؤسس مع الأسف لانقلابات. والله المعين.