سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

زمن الاسترضاء والرماد

ربما أن مكتبة الكونغرس نفسها لا تعرف ما هو العدد الحقيقي للكتب والدراسات التي صدرت عن هتلر أو النازية. أو عن ماو تسي تونغ وستالين وبول بوت وتفسيرهم للشيوعية. من أهم ما قرأت قول الكاتب الإنجليزي مارتن آميس: فلنَكف عن محاولات فهم هتلر. هناك أشياء لا شرح لها.
أكثر ما قرأت عن هتلر من مطالعات غربية وروسية كان يدور حول نقطة واحدة اتفق على تسميتها «الاسترضاء». وجد الأوروبيون أمامهم رجلا هجوميا بلا حدود أو ضوابط فحاولوا تجنبه. شكّوا في أنه كاذب لا قيمة لوعوده وفضّلوا أن يصدّقوه. وأدرك هو مكامن ضعفهم فمتّع نفسه بالمزيد من الكذب عليهم واحتقار هشاشتهم.
عندما نفكر قليلا في الأفعال الداعشية قد نرى أن معالم الهمجيّة واحدة: سيف أو ساطور أو دبابة أو طائرة «ترمي بشرر». هتلر لم يرفع شعارات دينية لكنه اختار العنصرية العرقية. وليس صحيحا أنه كان فردا أو حزبا بل ظاهرة مخيفة أبادت البولنديين واحتلت الفرنسيين وقصفت البريطانيين، وجميعهم أوروبيون.
هناك ظواهر خُلقية جماعية ليس من المطلوب «تفهّمها» لأنها لن تُفهم وإنما يجب مواجهتها قبل أن يتخطّى التفاقم كل حدود. وهذه ليست مسؤولية الدولة وحدها وإنما المؤسسة الأوسع، بما فيها الدولة. وهذا ما جعل الملك عبد الله بن عبد العزيز يضع حدا نهائيا لعقلية «الاسترضاء» والمواقف السلبية التي أوصلت الأمة برمتها إلى أن تصبح رهينة فكر القتل والذبح والاستعباد.
كنت أقول دائما هنا، بقدر ما تسمح لي الأصول والآداب، إن صمت الكبار عن صغائر الصغار شراكة في المسؤولية. لأن القضايا الكبرى ومصائر الشعوب لا يمكن أن تُترك لخاطفي الإيمان وجزّاري العقول والقلوب والأعناق. إن أفظع ما يدور من جدل مرضي – كالعادة – هو أن الجميع يتساءل: من يقف وراء داعش ومن صنعها ومن يموّلها. ويضحك ذوو الإجابة ويقولون مع ابتسامة عبقرية: طبعا أميركا. هؤلاء قالوا من قبل إن أميركا دبرت (خطوة خطوة) 11 سبتمبر (أيلول). هؤلاء هم ذلك النوع البشري الذي يفتش عن مسؤولية الفقر والقتل والجهل والمجاعات عند المؤامرة والاستعمار. هؤلاء الذين يرون صورة سيف وعنق ويعتبرون العنق هو القاتل لأنه من أميركا.
يجب ألاّ نبحث عن هتلر وحده بل عن أبطال الاسترضاء. خان المارشال بيتان فرنسا وهو مقتنع بأنه ينقذها عندما دعاها لقبول الاحتلال وتمجيده. وعندما أنقذ ديغول كرامتها كان رجالها قد أُذلّوا، ونساؤها قد سُبين، وأطفالها قد دُمّرت حياتهم إلى النهاية.
نحن في زمن الاسترضاء. وليس العرب وحدهم من تأخر في سماع نداء الرجل الأبي وكامل الرجال الملك عبد الله بن عبد العزيز، بل أيضا خاملو الغرب وناقصو الرؤية السياسية والذين يمضون فكرة التدرب على شؤون العالم وهم في أعلى وآخر وواقع القرار.