سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

بحثاً عن الحقيقة بين مُنتدى ومُلتقى!

يتبدى الإعلام العربي هذه الأيام، وكأنه مريض ينتقل من طبيب إلى طبيب، عارضاً نفسه عليهم واحداً وراء الآخر، لعلهم معاً يتوصلون إلى حقيقة ما يعاني منه ويؤلمه، أو لعلّ طبيباً نبيهاً بينهم يقع على أصل الداء فيشير إليه دون حرج، فالقصد ليس الحرج ولا الإحراج، ولكنه الذهاب إلى قلب الموضوع من أقصر سبيل!
وربما يكون الشيء اللافت فيما أشار إليه الأطباء جميعاً، حتى الآن، أن النصيحة التي يقدمها هذا الطبيب منهم، ليست هي التي يشير بها ذاك الطبيب، وأن «الروشتة» التي يكتبها أولهم، ليست هي التي يحررها آخرهم، فالتشخيص مختلف ولا يزال يختلف من طبيب إلى آخر، مع أن المريض الممدد أمامهم مريض واحد لم يتغير، ومع أن أعراض المرض وعوارضه واحدة، ومع أن الشحوب الذي يظهر على الوجه البادي أمامنا، يكاد ينطق من بعيد بحقيقة المرض ويعلنه!
وما كاد مريضنا يحصل على تشخيص لعدد من أوجاعه في منتدى الإعلام العربي، الذي دعا إليه نادي دبي للصحافة نهاية مارس (آذار) المنقضي، في دورته الثامنة عشرة، ليومين، حتى وجد نفسه على موعد مع تشخيص جديد للأوجاع نفسها، ولكن في الكويت هذه المرة، حين دعا الأستاذ ماضي الخميس، الأمين العام للملتقى الإعلامي العربي، قبل ثلاثة أيام، إلى الدورة السادسة عشرة من دورات الملتقى!
وبمثل ما كان منتدى دبي يتلمس خطوات الإعلام، منطلقاً من واقع ليس مُرضياً، إلى مستقبل لا بديل عن أن يكون عالي السقف في طموحه، بمثل ما كان ملتقى الكويت يبحث عن القيمة التي يمكن أن تعزز مسيرة الإعلام وتخدم قضاياه، وقد كانت هذه القيمة هي الحوار، ولا شيء غير الحوار، وكان الأمين العام للملتقى يضغط على حروفه، ويحدد مخارج ألفاظه بدقة أكثر، وهو يقول أمام عدد من وزراء الإعلام العرب، إن مجتمعنا العربي من حقه أن يتلقى إعلاماً يحميه ولا يفككه، يبنيه ولا يهدمه، يقيه ولا يجرحه!
وكان وزير إعلام سلطنة عمان الدكتور عبد المنعم الحسني حاضراً، فالتقط فكرة الحوار باعتبارها مدخلاً، ليرتجل على منوالها كلمة مختصرة، ولكنها كانت مكثفة ومُعبرة عما يجب أن يقال، فكان تقديره أن الإعلام العربي في هذه المرحلة التي تمتلئ فيها المنطقة بالنزاعات، لا سبيل أمامه سوى الترويج طوال الوقت للحوار كقيمة باقية بين الناس، وأن ذلك لن يؤدي إلى ما نرجوه من ورائه، إلا إذا آمنا بأن الحوار الذي نريده، ونقصده، ثم، وهذا هو الأهم، نحتاجه، ليس كلاماً يدور بيننا بلا هدف ولا غاية، ولا حديثاً لقتل الوقت واستهلاكه، ولكنه طريق إلى حجز موقع على خريطة المستقبل!
والحقيقة أنه من طول البحث عن تشخيص دقيق، للمرض الذي أصاب الإعلام العربي في غالبيته، دون القدرة في كل مرة من مرات البحث على الوصول إلى علاج ناجح يتعافى به إعلام العرب، ويمنحه القدرة على أن يكون حيوياً في وطنه ومنطقته، شأن الإعلام الحي في بلاد العالم المتطورة من حولنا، فإنني تصورته مريضاً يعاني من شيء آخر، على طريقة مريض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في القرن الأول للهجرة!
ورغم أن القصة المروية عن الخليفة الراشد الثاني، يمكن أن تكون رمزية، أكثر منها قصة واقعية، بل هي غالباً كذلك، فإنها تحمل بين ثناياها، ذلك المعنى الذي تحوم حوله هذه السطور!
فالقصة أن مريضاً شكا من مرض في أيام عمر، ولم تفلح معه أعشاب كثيرة تناولها، ولا نجح أطباء كثيرون زاروه، في أن يعرفوا مما يشكو الرجل، ولا ما الذي بالضبط يوجع بطنه ويرهقه، فكان أن حملوه بناء على نصيحة صادق أمين إلى ابن الخطاب!
وبقية القصة تقول إن عُمر قد وضع يده على صدر المريض، وإنه قرأ فاتحة القرآن الكريم، وإنه طلب منه أن ينصرف، دون أعشاب، ودون علاج، ودون دواء من نوع ما كانوا يعرفونه وقتها، وفي الطريق إلى بيته كان قد استرد عافيته الأولى، وكان قد شفي، وكأن مرضاً لم يصبه من قبل، بما يعني أن التشخيص كان في محله، وأن العلاج كان في مكانه!
ويشاء الله أن يصاب الرجل بالمرض ذاته، ولكن بعد رحيل عمر بن الخطاب، وبسرعة كان واحد من أقربائه، قد جاء، وبسرعة كذلك كان قد وضع يده على صدر مريضه، وبسرعة كان قد قرأ فاتحة الكتاب، ثم أعادها، ولكن المفارقة التي تسردها الحكاية، أن ذلك كله لم ينفع مع المريض، وأن معاناته قد ظلت كما هي، ثم طالت وامتدت بغير أمل في شفاء قريب!
وكان رجل حكيم يعود المريض، فلما رووا له ما حدث، لخص القصة في عبارة واحدة فقال: الفاتحة هي الفاتحة، ولكن أين يد عمر؟!
فما المعنى؟! حقيقة الأمر أن رمزية القصة المروية تجعلها مؤهلة لأن تكون محلاً لتأويلات كثيرة، وكل قارئ لها أو سامع عنها، يستطيع أن يجد فيها المعنى الذي يراه، وسوف يراه حسب زاوية نظره إلى أصل الحكاية، وعلى قدر زوايا النظر سوف تتسع مساحات التأويلات وتتعدد!
فما هو ذلك التأويل الذي يجعلها جاهزة للتعبير عن حقيقة المرض، الذي أصاب قطاعات واسعة من الإعلام العربي، فجعلها غير قادرة على ممارسة التأثير في جماهيرها على نحو ما يجب؟! الحق أن المعنى الذي أردته منها، أن عمر بن الخطاب، قد أدرك ابتداءً على طريقته، أن العلاج الصحيح بدايته من عند التشخيص الذي يضع يده على موضع الوجع، وأن ذلك يجعل مهمة الطبيب ممكنة، وقد يجعلها مهمة ميسورة، وأن التشخيص الصائب يقطع نصف الطريق وربما أكثر من نصفه، إلى التعافي، وإلا، فإنك كطبيب تظل تعطي الدواء الصح للمرض الخطأ!
والواقع يوحي بأن حقيقة المرض في مواقع عريضة من إعلامنا، في أكثر من عاصمة عربية، هي أن حكومات هذه العواصم لم تؤمن بعد، بأن الحرية سلعة تعاني شحاً في الأسواق، وأنها هي دواء الإعلام الشافي، وأنها في أشد الحاجة إلى أن تتاح في الأسواق، كما تتاح في كل بلد يعانق العصر ويصالحه، ولا يخاصمه، وإنها تواجه حالة من الندرة ليست مطلوبة، وأن غيابها بوصفها قيمة عالية يظل مصدر خطر، ليس على الإعلام كصناعة كبيرة، وثقيلة، ولكن على تماسك الأوطان نفسها، لأن الإعلام بلا حرية حاضرة، سوف لا يقدم سوى مضامين ضامرة!
وقد كاد وزير إعلام الكويت، محمد الجبري، أن يلامس هذا المعنى من بعيد، حين قال أمام الملتقى إن الاستثمار في صناعة الإعلام، يخلق أجيالاً قادرة على ممارسة مسؤولياتها الوطنية.
وليس سراً أن ممارسة مثل هذه المسؤوليات لا تكون مجدية، ما لم تكن تجري في فضاء حر، ثم إنني أضيف أنه لن يكون فضاءً حراً، ما لم يكن مسؤولاً، لأن الحرية بلا مسؤولية هي جسد يحجل على قدم واحدة!