أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

مفارقات مؤلمة في ذكرى الاستقلال السوري

ربما لم يدرك يوسف العظمة أن تضحيته في معركة «ميسلون» في 24 يوليو (تموز) 1920، سوف تكون أحد أهم الحوافز في عقول السوريين ونفوسهم لإخراج المحتل الفرنسي من البلاد في 17 أبريل (نيسان) 1946، لكنه كان يدرك عندما آثر مواجهة قوات الجنرال غورو أنه ذاهب إلى معركة غير متكافئة، وأن جيشه البسيط المؤلف من فلول جنود مسرّحين وشبان متطوعين، لا يمكنه أن يصمد في وجه جيش متمرس وكثير العدة والعتاد، فاختار التحدي، واستشهد وزيراً للدفاع مع ثلة من رفاقه، أبوا ترك بلادهم لقمة سائغة للأجنبي؛ تَحْدوهم عبارته الشهيرة: «كي لا يكتب التاريخ أن جيش الاحتلال دخل دمشق من دون أن يقاومه أهلها»!
والمفارقة أنه ليس في السلطة السورية اليوم من يتحسب مما قد يكتبه التاريخ، أو قد يضحي بنفسه، أو على الأقل بمنصبه، دفاعاً عن حياض الوطن وكرامته، ما دام ينتمي إلى سلطة لا يهمها الوطن إلا بقدر ما يعزز تسلطها وفسادها وامتيازاتها... سلطة استجرّت، دفاعاً عن كرسي الحكم، مختلف أشكال التدخل الخارجي، فمكّنت الأجنبي؛ الروسي والإيراني، من التحكم بالبلاد وإخضاع مستقبلها للعبة التنافس الإقليمي والعالمي، وسهّلت تنامي مجموعات إسلاموية غريبة لتنفيذ أجندتها المتطرفة، منتهكة المجتمع وحقوق أبنائه... سلطة ارتضت تغيير خريطة سوريا إرضاءً لصديقها إردوغان، فحذفت منها لواء إسكندرون السليب، واكتفت بتسيير مظاهرات باردة، رداً على قرار الرئيس الأميركي اعتبار الجولان المحتل جزءاً من أراضي إسرائيل... وما كان لأحد أن يتجرأ ويمنح قطعة أرض من بلد ما لبلد آخر، لولا الوضع المأساوي الذي أوصلت السلطة الوطن إليه.
مع أنه وُصف بالديكتاتور الأقوى والأقسى في سوريا بعد الاستقلال، لكن أديب الشيشكلي آثر الانسحاب من السلطة عام 1954 عندما علم بانقلاب مجموعة من الضباط عليه، وفضل المنفى وترك منصبه الرئاسي لتجنيب البلاد الحرب الأهلية، والقوات المسلحة الانقسام، وذلك رغم قدرته على استخدام القوة ضدهم، فقد كان مسيطراً على قسم من الجيش يدين له بالولاء، خصوصاً من سلاحي المدرعات والطيران، والأوضح أنه ختم بيان تنازله الطوعي عن الحكم بعبارته الشهيرة: «لن أسمح لجندي سوري بأن يوجّه بندقيته لجندي آخر بسببي»، مقدّراً، كما أثير وقتئذٍ، البنية الهشّة لسوريا؛ وطناً ودولة، والتنافسات المناطقية التي تحكمها، مما قد يضع مستقبلها في موقع الخطر، في حال دفع الصراع إلى آفاق حادة ودموية.
والحال؛ يطرح موقف الشيشكلي اليوم أسئلة مريرة... ماذا يمكن أن يوصف سلوك نظام رفع جهاراً شعار: «إما أنا أو أحرق البلد» وعمل قاصداً كي يكون صوت السلاح هو الصوت الوحيد المسموع بكل ما يمكن أن يخلفه من قتل وتدمير؟ وكيف يمكن أن ينظر إلى ما حل بالجيش الوطني، حين أتخم بالفساد والطائفية ووظف ضد الشعب، وسخرت أسلحته الفتاكة، ليس لمواجهة العدو الخارجي، بل للنيل من إرادة سوريين طالبوا بحقوقهم المشروعة؟ والأسوأ ماذا يمكن أن يقال عن نظام رفض تقديم التنازلات البسيطة أمام شعبه واستسهل، دفاعاً عن كرسي الحكم، تشجيع الانقسامات والاستقطابات وشحن روح التنابذ، وتحويل البلاد إلى مرتع للصراعات البينية، ولمعارك طائفية وإثنية، محفوفة بتفشٍ مفزع للغة الحقد والانتقام، وبإنتاج مقولات بغيضة تدعو لتدمير الآخر وإفنائه، أقل ما توصف به أنها غير مألوفة إنسانياً، وتكشف عن توحش وهمجية غريبة عن روح الشعب السوري وتاريخه؟
في الماضي غير البعيد، وفي زيارته لإحدى المدن السورية، اعترض موكب خالد العظم، وكان رئيساً للوزراء وقتئذ، بعض المحتجين على سياساته ورشقوه بوابل من البندورة والبيض الفاسد.
لم تتأخر قوات الأمن عن محاصرة المحتجين واعتقال بعضهم، ولكن خالد العظم لم يُرِحْه ذلك، وبادر وهو لا يزال في القطار العائد إلى دمشق بطرح السؤال على مرافقيه: ماذا فعلتم بالمحتجين؟! فكان الجواب أنهم قد أودعوا السجن... فأمر بإطلاق سراحهم فوراً، رافضاً كل الذرائع التي سيقت لتسويغ الاعتقال بأنهم «قد أساءوا لشخصه ولهيبة الدولة ومكانتها، وما قاموا به سيشجع آخرين على مزيد من الإساءة والشغب»... واستدرك محتجاً: «أين حق الناس إذن في التعبير عن مواقفهم وعما يجيش في نفوسهم؟»، مضيفاً بحزم أن «الرد على ما ارتكبوه ليس القمع؛ بل المزيد من الديمقراطية... المزيد من الديمقراطية».
اليوم، في حضرة خالد العظم، بأي عين يمكن النظر إلى هذا التوغل الوحشي؛ بل المزيد من التوغل الوحشي في القهر والعنف لسحق بشر مسالمين... إلى الرصاص الحي الذي وُجّه إلى صدور الفتيان العارية في المظاهرات السلمية التي عمّت أرجاء البلاد لأكثر من ستة أشهر... إلى التصعيد العنفي بالقصف والتدمير العشوائيين واستخدام الأسلحة المحرمة لقتل وتشريد الملايين من السوريين... إلى ذاك التغييب القسري والاعتقال على الشبهة والمحاكمات الميدانية، وما سرب من تفنن سلطوي في ابتكار أشنع وسائل القهر وأكثرها رعباً لتعذيب السجناء وإذلالهم وقتلهم... وتالياً إلى مئات آلاف الأسر التي لا تزال تبحث عن أبنائها المفقودين في السجون والمعتقلات... وقبل ذلك إلى عشرات آلاف المعتقلين الذين دمر النظام أغنى سنوات شبابهم في السجون بذريعة «النيل من هيبة الدولة»؟!
سقى الله أيام زمان؛ أيام أجمع فيها رواد الاستقلال، على تنوع منابتهم مثل إبراهيم هنانو وسلطان الأطرش وصالح العلي وحسن الخراط وفارس الخوري وسعد الله الجابري... وغيرهم، على القول للأجنبي: «كف يديك عن بلادنا، إن شعبنا هو الأقدر على إدارة شؤونها وصون مقدراتها». لم يتوقعوا أن ترث تركتهم سلطة استبدادية لا تثق بالشعب، واختزلت مفهوم الوطن باستقلال شكلي وبشعارات ديماغوجية عن مقاومة إسرائيل والمؤامرات الخارجية، لتكريس امتيازاتها وتسويغ القهر والاستبداد... كانت أرواحهم ترنو نحو وطن تقترن فيه فريضة التحرر من الاستعمار بتحرير الإنسان وإنهاء حالة إدمان قمعه وتهميشه... وطن تحْدوه الكلمات الحية لشكري القوتلي في يوم الجلاء عام 1946 بأن «الحرية والاستقلال صنوان؛ صيانتهما أشق من الظفر بهما، هما أمانة الشهداء في أعناقنا، كي نورث أبناءنا وطناً سليماً قوياً محترماً».