خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

إلى المتماوت.. سميح القاسم

يكون لبعض الشعراء أو الروائيين أو الفنانين تأثير كبير على حياتنا. عندما ننظر في أعمق جزء من أرواحنا، يمكننا أن نجد أناملهم تمس شغاف قلوبنا، ونشعر بأن هذا هو جوهر الحياة. بمعنى أنهم يصبحون بطاقات هويتنا!
بالنسبة لي يظل سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وإميل حبيبي أحياء على مدار العصور. ما زلت لا أصدق أنهم رحلوا، لأنهم منحوني معنى جديدا للحياة والموت، وهم أحياء جدا في نظري. إنهم روح فلسطين الخالدة.
عندما اقرأ قصائدهم أو مقالاتهم أو رواياتهم، أشعر بأنهم يجلسون إلى جواري وينظرون إليّ.
منذ ثلاثة وعشرين عاما قام سميح القاسم بزيارة إلى إيران، وقرأ بعض قصائده في إحدى قاعات المحاضرات، والتي كانت تمتلئ بالجمهور.
كان البعض يجلسون على الأرض وجلس شخص على النافذة، بينما وجد البعض مساحة للوقوف خلف سميح!
كان هذا هو المعنى الحقيقي للحياة. للشاعر الفلسطيني معين بسيسو قصيدة شهيرة باسم «المعركة» يقول فيها:
«يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال
أنا لم أمت!..
أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
ولتحملوا البركان تقذفه لنا حمر الجبال
هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة
للثورة الكبرى على الغيلان أعداء الحياة
فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة
فانظر تجد علما يرفرف فوق نار المعركة
ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة».
عندما رحل معين بسيسو في لندن عام 1984، كتب سميح قصيدة له. كانت قصيدة طويلة، أشبه بديوان.
في هذه القصيدة، استخدم سميح مصطلحا غريبا أطلقه على بسيسو: «المتماوت»!..
«أنت تدري كم نحبك
إلى المتماوت.. معين بسيسو».
جمع سميح بين مفهومين، الحب والموت. عندما نحب شخصا ما، لا يموت أبدا في قلوبنا، لأن الحب خالد، لأنه أبدي. إنه صميم وروح الوجود، وهو من صفات الله:
«يا صاحبي الصعلوك
فامنحني القليل
من الهدوء المستحيل..
من كنت حتى ابتلى بعذاب غزة
مرة أخرى..
ومن مرة أخرى ابتليت
بكل أحزان الجليل؟».
هذه القضية تنبض بالحياة، لأن فلسطين وغزة والجليل تنبض بالحياة، لأننا نشعر بأنفاس سميح وروح بسيسو، وروح المقاومة في قصائدهما.
اسمحوا لي أن أحكي عن موقف آخر.. كان سميح القاسم يقف بالقرب من جسد محمود درويش في بارفا في جنازة درويش. وكان يتحدث مع درويش، وكأن درويش لا يزال حيا؛ كان سميح يتحدث مع صديق العمر. حملت نبرات صوته وحركات يديه ودموعه إشارات على أن سميح كان يتحدث مع محمود درويش الحي. وكرر عدة مرات قوله:
«يا أخي! يا من لم تلده أمي!
أنت تسمعني جيدا
وأنا أسمعك جيدا
إنهم ينتقمون منك بأسلحة التدمير الشامل
وأنت تواجههم بقصيدة الحياة الشاملة».
هذا تفسير فريد يظهر التناقض بين أسلحة الدمار الشامل والقصائد! هذا دليل فريد يوضح الفارق بين قوة السلاح وقوة الفن والكلمة.
من جانب، ترغب إسرائيل في تحويل غزة وفلسطين إلى أرض محروقة، من خلال قصف كل شيء وقتل الجميع.
على الجانب الآخر، أراد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد أن يعيدوا إليها الحياة. يستخدم أحد الطرفين النيران والطلقات والقنابل، بينما يستخدم الطرف الآخر الكلمات.
إنهم يساعدوننا ويرشدوننا لنرى عبر عيونهم ونشعر عبر صميم قلوبهم.
يقول توفيق زياد:
«أناديكم
أشد على أياديكم..
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني..
ودفء القلب أعطيكم..
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم.. أناديكم».
توجد حاليا نظرية في الأدب، نظرية الغياب أو موت الكاتب. كانت قصيدة سميح القاسم شيئا آخر. إنه حي في قلوبنا بأشعاره، كما كان محمود درويش حيا في قلب سميح. ولعل في نظرية الأدب، التي تقول بموت الكاتب، لا يكون العمل من دم ومشاعر وليس به حياة، ليس مثل قصائد درويش أو سميح، لأن أيا منهما لم يحصل على جائزة نوبل في الأدب. ومن المثير للاهتمام أن بعض الشعراء فازوا بجائزة نوبل وبعضنا حتى لا يتذكر أسماءهم، وعندما نحاول قراءة أشعارهم نصل إلى 20 صفحة بالكاد! تشعر وكأن تلك القصائد مصنوعة من البلاستيك والقطن والثلج.
وبخلاف الشعراء الذين ذكرتهم آنفا، تشعر بالفعل بأن الكاتب أو الشاعر توفي بالتأكيد!
عندما كان سميح القاسم راقدا على فراشه في المستشفى، خرجت كلماته الأخيرة وكأنها قصيدة، حيث كتب:
«أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك! وأدرك أن سريرك جسمي
وروحي لحافك
وأدرك أني تضيق علي ضفافك..
أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك».
لا شك في أن سميح القاسم حي! وأنه يعيش حياة أبدية عبر كلماته وآلامه، وما خلقه من مساحة فلسطينية على ساحة الأدب، وقلعة من ألماس ودموع. نجح بيكاسو في رسم لوحة لغرنيكا، ليحيي ذكرى جميع الأشخاص الذين قتلوا على يد أعدائهم. إنها لوحة رائعة. وقد نجح سميح في رسم لوحة غرنيكا أخرى عبر كلماته.
تحاول إسرائيل تدمير فلسطين، ويمكنها أن تقصف جميع المباني والمساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات، لكنها لا تستطيع تدمير الأرض! أرض فلسطين، فوطن الفلسطينيين خالد ولا يستطيع شخص أن يدمره. بالإضافة إلى ذلك، أنشأ سميح القاسم، ومعه صديق عمره درويش، وطنا خالدا بكلماتهما.
الكلمة هي أقوى ظاهرة في تاريخ البشر! في البداية كانت كلمة، وفي النهاية ستكون كلمة.
لهذا السبب قال سميح القاسم لصديقه معين بسيسو: «أنت حي، أنت متماوت»! وقال لدرويش «يا أخي! يا من لم تلده أمي! أنت تسمعني جيدا وأنا أسمعك جيدا».
كيف ننسى الشاعر الذي قال:
«قلبي قمر أحمر..
قلبي بستان».
عزيزي سميح، ضوء القمر الأحمر، يضيء نور قلبك دربنا؛ ويقدم لنا العبير الذي يفوح من ورود بستان قلبك جوهر الحياة الحقيقية.
نحن نحبك! وأنت لم تمت في نظرنا، لن تموت أبدا، أنت متماوت!
أنت لم تمت.. أنت تدعونا من خلف الجراح.