بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

السرطان ليس حتماً الموت

أستعير عنوان المقال ممن هو أهل خبرة، وصاحب اختصاص، يعرف تماماً ماذا يقول وعمّ يتحدث، إنه الدكتور فيليب سالم. مساء الأربعاء الماضي، كنت محظوظاً أن أقابل طبيباً سمعت عن تميّزه مبكراً، منذ 2002، وقرأت لاحقاً الكثير مما كُتِب عنه، ثم إن كلاً من المسموع والمكتوب، ينبئ عن سعة علم الرجل، وتميّز أدائه في ميدان صراع الإنسان عموماً، لا المريض وحده، ضد السرطان، المرض الفتاك، الذي ما أن يُقال لأي شخص، فور أي تشخيص أوّلي، إنه ضرب مكاناً في الجسم منه، حتى يُستَفَز على الفور عصبُ إنذار أن ناقوس الموت بدأ يقرع. ذلك الشعور، على وجه التحديد، هو ما حرص الدكتور فيليب سالم أن يحيّد آلام الإحساس به؛ إذ استهل كلمة له أمام جمهور لبى دعوة حفل صدور كتابه الجديد:
«DEFEATING CANCER - KNOWLEDGE ALONE IS NOT ENOUGH»
قائلاً ما مضمونه: إن الاستنتاج الفوري بعد تشخيص الإصابة بالسرطان بحتمية الموت، خطأ يقع في شباكه كثيرون، وقد يؤثر سلباً على سير العلاج.
ربما ليس من الجديد، خصوصاً على ذوي الاختصاص في علوم الطب عموماً، القول إن غرض عمل الطبيب هو المساعدة في شفاء المريض، وليس القضاء على المرض ذاته. إنما أن يستمع شخص غير متخصص في هذا المجال إلى مثل ذلك القول، يصدر عن كفاءة كما الدكتور فيليب سالم، فهو أمر، على الأرجح، جديد. لماذا؟ ربما لأن أمل الشفاء، الذي يراود كل مريض، هو خلاص البشر كلهم مما مرَّ به من مُرِّ آلام ذلك المرض. حسناً، الأمل في حد ذاته، عند فيليب سالم، يعني أول أضلاع مثلث المقاومة في صراع الإنسان ضد السرطان. الضلع الثاني هو المثابرة على نحو ينسجم مع الأمل، فلا ملل، ولا قنوط. أما ثالث الأضلاع فهو الحب. كم من المهم أن يُحاط مصارع السرطان بحب نابع من قلوب أحباء يحيطون به، فلا يحس بالإثقال على من يحب، إزاء مشاركتهم له، ومعاناتهم معه، أعباء مسيرة العلاج، ومتطلباتها. من هنا استنتاج فيليب سالم أن «المعرفة وحدها لا تكفي»، واختياره العنوان الفرعي لكتابه «هزيمة السرطان».
لقد شاءت الأقدار أن أطلع على تلك المعادلة، ومن ثم التعرّف على منهج فيليب سالم في العلاج، من أحد مرضاه، الراحل العزيز صالح العزاز، الصحافي والكاتب السعودي، صاحب القلم الرشيق، الفنان المبدّع عبر عدسة التصوير بحس مرهف، الذي فوجئ أصدقاؤه، كما أحباؤه وأهله كافة، صيف 2002 بنبأ إصابته بالمرض بينما هو في إجازة مع أسرته في أميركا. من سرير المشفى في هيوستن، كتب صالح العزاز مقالات عدة نشرتها «الشرق الأوسط»، كنتُ إذ أقرأها أحس بها تجليّات أمل في الشفاء، مستمدة من عزيمة تقبّل حكم الخالق، والرضا بما قسم، فإنْ هاتفتُ أبا عبد الله للاطمئنان، هتف قائلاً: إيمانٌ يعزز الأمل بالشفاء، أولاً، ثم المثابرة، وحب الأحباء من حولي. على هذا النحو بقي صالح حتى أسلم الروح يوم 15-12-2002، وهو لم يزل في ريعان شباب العمر.
الكاتب الناشر نعيم عطا الله، مؤسس دار «كوارتت» البريطانية للنشر، التي نشرت الكتاب، قدم فيليب سالم بكلمة قيّمة أوجزت مسيرة الرجل من قرية بلبنان، إلى قمة النجاح في مجال الأبحاث السرطانية في هيوستن بالولايات المتحدة. نعيم عطا الله نفسه يشكل قصة نجاح متميزة هو أيضاً، وعندما حييته بالقول إن حيفا، بل فلسطين ككل، يحق لها أن تفخر به، أجاب بتواضع عفوي: أوه، لستُ أدري، لعلك تعطيني أكثر مما أستحق. ذلك التواضع هو ذاته الذي عرفته فيه عندما أجريت حواراً معه لجريدة «العرب» اللندنية أواخر 1979 ضمن سلسلة عن نجاحات حققتها شخصيات عربية متميزة في لندن.
يبقى تساؤل عفوي فاجأني فيما أتصفح في القطار نسختي من كتاب الدكتور فيليب سالم: لئن كانت المعركة مع مرض السرطان، تتطلب التسلّح بأمل دؤوب يرفض الاستسلام، أيمكن افتراض أن الأمر ذاته ينسحب على معارك الشعوب مع أي سرطان يفاجئ أي شعب، بغرض سلب الأرض، وهدر الكرامة، وإلغاء التراث والهوية؟ الأرجح أن الجواب المنطقي: بلى، إنما في العمل السياسي، يوجب التعامل الصحيح مع أي خبائث سرطانية، الكثير من الذكاء، والتنبّه لمتطلبات تطور الأحداث، وتغيّر الموازين والتحالفات. ذلك حديث متشعب، والكلام فيه يطول.