د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الاحتياطيات النقدية للشركات

تحتفظ الكثير من الشركات بنسب محددة من السيولة النقدية في حساباتها البنكية دون المساس بها، وتتباين أهداف الشركات من هذه الاحتياطات النقدية، ففي حين ترمي الكثير من الشركات إلى تأمين سيولة تحفظ لها مصروفاتها المستقبلية القريبة في حال تعثر عملياتها، يهدف البعض الآخر إلى تأمين مبلغ يتيح لها اقتناص الفرص الاستثمارية بشكل سريع حال توفرها دون اللجوء إلى تسييل موجوداتها، وهي العملية التي تستغرق وقتاً طويلاً وتكلفة إضافية. كما تقوم هذه السيولة مقام الأصول لبعض الشركات، خاصة الشركات ذات الأصول الملموسة المنخفضة مثل الشركات التقنية والشركات المعتمدة على الأصول غير الملموسة مثل العلامات التجارية.
وأوضحت حالات مؤخراً أهمية الاحتفاظ بسيولة نقدية لغرض احتواء الأزمات مثل الأزمة التي مرت بها «سامسونغ» إبان انفجار بطارية «نوت 7» وكذلك استخدام شركة «بوينغ» لاحتياطاتها النقدية لاحتواء أزمة الطيارة «737 ماكس». والمؤكد أن توفر السيولة النقدية لدى الشركات يتيح لها الكثير من الحرية من الناحية الاستثمارية، إضافة إلى كون عدم توفر هذه الحرية يضع الشركات في خطر الإفلاس وتسييل الموجودات في أي وقت.
إلا أن امتلاك الشركات لاحتياطات نقدية مرتفعة جداً محط الكثير من التساؤلات، فما الذي يدفع الشركات إلى الاحتفاظ بسيولة عالية جداً دون أن تعود هذه السيولة عليها بأي عائدات مالية؟ والملاحظ أن سلوك الشركات بدأ في التغيّر بشكل ملاحظ منذ الأزمة المالية في عام 2008 تجاه ارتفاع هذه الاحتياطيات، وتشير الأرقام إلى أن احتياطيات الشركات الأميركية لوحدها ارتفعت من تريليون دولار في عام 2010 إلى ما يقارب تريليوني دولار في عام 2017، وارتفعت احتياطات شركة سامسونغ الكورية من 69 مليار دولار في عام 2016 إلى 92 مليار العام الماضي. وقد يبرر هذا الاحتفاظ بالسيولة لبعض الشركات، وخاصة الشركات التقنية والشركات المعتمدة على البحث والتطوير مثل الشركات الدوائية، أن هذه الشركات تحتاج إلى تأمين ميزانيات المشاريع البحثية بشكل شبه كامل منذ بداية المشاريع، وذلك لأهمية هذه المشاريع وحساسيتها لمستقبل الشركات، وعليه فهي تحتفظ بهذه الميزانيات دون المساس بها.
إلا أن الأمر لا ينطبق على الكثير من الشركات، وهو ما يجعل الاحتفاظ بهذه السيولة الضخمة مؤشراً على عدم ثقة المستثمرين بالاقتصاد. فسحب السيولة من الأسواق وإيداعها في حسابات بنكية هو أول ما يقوم به المستثمرون في حال عدم تيقنهم من المستقبل الاقتصادي، وقد لوحظ هذا السلوك بشكل متكرر من الشركات البريطانية في العام الماضي بسبب عدم معرفة المستثمرين لمستقبل بريطانيا الاقتصادي في حال خروجها من الاتحاد الأوروبي، ويترتب على سحب هذه السيولة من الأسواق إقفال الكثير من الاستثمارات بما في ذلك من انخفاض أسعار إيجار المتاجر وزيادة البطالة بكل تأكيد. وأوضحت بيانات من «رويترز» أن كثيرا من الشركات التي تدير صناديق استثمارية في أوروبا قامت بزيادة سيولتها الاحتياطية فوق المستوى المتوسط خلال الأشهر الأخيرة، وهو أمر لا يستهان به، خاصة إذا كانت هذه الشركات ضخمة مثل: «جي بي مورغان» و«بلاك روك» و«إليانز». وقد لا يستغرب هذا الأمر بالنظر إلى حالة عدم الاستقرار في دول الاتحاد الأوروبي، ففرنسا تعاني على المستوى السياسي، واقتصاد إيطاليا يقاوم الغرق لسنوات طويلة، وحتى ألمانيا بدأت رقمياً في الدخول إلى مرحلة ركود اقتصادي، متأثرة بالركود في الدول المحيطة وبالصين كذلك.
وعلى الجانب الآخر من المحيط، فقد انخفضت الاحتياطيات النقدية للشركات الأميركية لأول مرة منذ عقد من الزمان، وفي ذلك دليل على أن الشركات الأميركية ترى فرصاً استثمارية تستحق أن تنفق لأجلها، وقد يكون ذلك بسبب قانون خفض الضرائب الذي أقره الرئيس الأميركي العام الماضي، ولكن المؤكد أن هذا الإنفاق سبب رئيسي في انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة ووصوله لنسبة منخفضة جداً مقارنة بعقود مضت.
إن معدل الاحتياطيات النقدية للشركات معيار على إيمان الشركات بوجود الفرص في الأسواق، وبثقتها في متانة الاقتصاد، وحتى مع ضرورة احتفاظ الشركات بسيولة نقدية للأسباب المذكورة، فإن وصولها إلى هذا المستوى قد يكون مؤشراً على أن الاقتصاد العالمي مقبل على أزمة مالية جديدة، جعل هذه الشركات تحتفظ بسيولتها في حسابات بنكية لا تعطيها أي عائد مالي (أي أن هذا الإجراء خسارة حتمية على الورق)، ومع ذلك فإن هذه الشركات لا تمانع هذه الخسارة مقابل عدم استثمارها في الأسواق، وهو ما يعطي انطباعاً على تشاؤم هذه الشركات من المستقبل الاقتصادي.