مرت ثماني سنوات على بداية الانتفاضة السورية، وحان وقت استخلاص الدروس الصارخة. جفّت البلاد، وعانى الغرب من انتكاسة كبيرة، ولم تتمكن قوى إقليمية داعمة للمعارضة من التأثير في نتائج الحرب، فيما سجّل الروس والإيرانيون نقاطاً استراتيجية بالغة الأهمية، وعاد الأسد إلى المسار.
الأسوأ في كل ما سبق يتعلق بمصير المجتمع السوري، حيث بلغت تكلفة النزاع ما بين 300 ألف إلى 500 ألف قتيل، واضطر ربع السكان إلى الفرار من سوريا فيما بات الربع الآخر «مشرداً في بلاده». وحسب منظمة «يونيسكو»، فإن 37% فقط من الأطفال السوريين بإمكانهم الحصول على نصيبهم من التعليم الابتدائي، وتراجع الاقتصاد بمقدار النصف، وتجاوز نطاق الدمار حدود الخيال. ورغم عدم حصر تبعات الحرب والدمار فإنها فظيعة بكل تأكيد.
من الناحية السياسية، هناك من يرى أن الأسد قد خرج من الحرب «منتصراً» رغم أن نظامه كان على وشك الزوال لولا دعم «حزب الله» وإيران وروسيا. ومن ضمن الدلائل على «انتصار الأسد» أن نظامه يسيطر على ثلثي أراضي دولته في الوقت الحالي، رغم أن معظم الموارد الاستراتيجية سواء السدود الكهرومائية أو حقول الهيدروكربونات أو مناجم الفوسفات (التي تسلمها للروس) قد خرجت عن سيطرة سلطات دمشق، ورغم أن المظاهرات لا تزال مستمرة في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ومنها مدينة درعا.
في الواقع، لقد فاز الأسد في معركة حاسمة هي معركة الخطاب، حيث يعتقد مراقبون وصناع قرار أنه «يسير في طريق الانتصار»، إذ استعاد النظام في نهاية المطاف أراضي، وشرعت دول مجاورة في التطبيع مع دمشق وما لبثت أن تبعها بعض الدول الأوروبية.
الأهم من ذلك أن جدار الخوف قد أُعيد تأسيسه بالكامل في «جمهورية الأسد»، ويجب التأكيد هنا على عامل أخير هو أن نظام الأسد يعرف ما يريد وليس لديه شك في هدفه، وهو البقاء في السلطة ورفض أي شكل من أشكال تقاسم السلطة لاستعادة السيطرة الكاملة على البلد بأسره. على المنوال نفسه، لدى الراعي الرئيسي، إيران، رؤية واضحة للعبة النهائية التي ترغب في أدائها وهي السيطرة على عملية صناعة القرار في دمشق بالطريقة نفسها التي تدير بها طهران بيروت بعد أن أسست موقعاً عسكرياً في سوريا بالفعل. فقدرات إيران قوية بما يكفي لتشكل تهديداً أكيداً على إسرائيل.
وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن جميع الجهات الفاعلة الأخرى المشاركة في النزاع السوري لا تخلو من التناقضات في استراتيجياتها أو على الأقل تبدو مترددة بين الخيارات المختلفة. ويبدو أن الأميركيين أنفسهم، ولا سيما الرئيس دونالد ترمب، عازمون على الانسحاب والتخلي عن أعباء ومسؤوليات في بلد لم يمثل لها أهمية يوماً ما. وفي الوقت نفسه، زاد الأميركيون من ضغوطهم على النظام الإيراني بفرض موجة جديدة من العقوبات التي تستهدف عمليات نقل النفط من إيران بدرجة لم تصل إليها إدارة أوباما.
لدى روسيا خطة طموحة لتعزيز النظام والحفاظ على الأتراك والإيرانيين والحفاظ على علاقات جيدة مع إسرائيل ودول عربية، وإقناع الأوروبيين بالبدء في تمويل إعادة إعمار سوريا. وفي مرحلةٍ ما قد تضطر روسيا إلى مواجهة معضلة لطالما أجّلتها وهي الوصول إلى اتفاق سياسي يضمن استمرارها في النجاح أو مواصلة التشويش ببراعة. في الحالة الأولى يتعين على روسيا الحصول على تنازلات من النظام السوري لم يرغب في تقديمها حتى الآن، وفي الثانية ستخاطر بفقدان مكانها الحالي كـ«وسيط صادق» بين جميع الأطراف.
يبدو أن الأتراك في موقع يتمتعون من خلاله ببعض الامتيازات ليس فقط لأنهم يعرفون ما يريدون (سحق أي احتمال للتهديد الكردي القادم من شمال سوريا وربما الاستيلاء على بعض الأراضي الجديدة حال كان ذلك ممكناً) لكن لأنهم أيضاً في موقع باتت فيه أميركا روسيا وأوروبا تتنافس للحصول على خدماتهم. لكن الأوروبيين في وضع معاكس، حيث لا يوجد هدف واضح ولا خيارات جذابة، ويقال إن لديهم ميزات جديدة فتحت أمامهم المجال للمشاركة في إعادة الإعمار في سوريا حال أرادوا ذلك.
لكن هل ينبغي عليهم إشراك روسيا أو وربما نظام الأسد نفسه في ذلك لتأمين عودة آمنة للاجئين السوريين؟ أم أنه من الأفضل تجنب أي سياسات - من خلال توطيد النظام - من شأنها أن تديم الظروف التي ولّدت الانتفاضة وأوجدت تهديداً متطرفاً هائلاً يثني اللاجئين عن العودة إلى ديارهم؟
يجب أن يكون للدول العربية دور حاسم، لكنهم كالعادة منقسمون، فبعضهم يميل بقوة لإعادة الروابط مع دمشق وإعادة دمج سوريا في الجامعة العربية بينما يرفض البعض الآخر حجة واحدة تكمن في السياسة الواقعية، وهي أنه على المرء أن يتكيف مع الواقع. وفي الحالة التي نحن بصددها، لا تزال المحكمة تنظر في «انتصار الأسد»، وفي حال قبلت بالانتصار، ستعمل الدول العربية على تحويل ذلك إلى أمر واقع.
ثمة جدلية أخرى تتمثل في الحاجة إلى موازنة النفوذ الإيراني في دمشق، وربما النفوذ التركي. ربما يتطلب ذلك أن يطغى الأمل على التجربة، فإذا نظرنا إلى العقود الماضية من حكم الأسد، سندرك أنه من المستحيل أن يقطع علاقاته مع طهران. ولذلك فأي مساحة سياسية سيحصل عليها من تعزيز علاقاته مع الدول العربية سيستغلها لا محالة في تعزيز وزنه في مثلث «دمشق - طهران - حزب الله»، وفي نفس الوقت لن يبتعد عن تحالفات نظامه الحيوية.
إن الإبقاء على الأسد بوصفه منبوذاً في محيطه الإقليمي هو السبيل الوحيد للإبقاء على فرصة خروج روسيا من المعضلة السابقة الذكر ومن ثم البدء في مفاوضات جادة مع الولايات المتحدة والحلفاء العرب والأوروبيين.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:32 دقيقه
TT
السبيل لحل المعضلة السورية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة