تيلر كوين
TT

حول معارك الاستقطاب السياسي

إن تيسر لي وصف مجريات عام 2019 حتى الآونة الراهنة، فإنني قد أنعته بالعام الذي يشهد تراجع الاستقطاب السياسي على مختلف المناحي والصعد. أعلم أن ما أقوله قد يبدو مناقضاً للبديهة من الوهلة الأولى – أليس أنصار مختلف التوجهات الحزبية يسلخون جباه بعضهم بعضاً عبر منصات التواصل الاجتماعي طيلة الوقت؟ - ولكن كل ما أرجوه منكم أن تتحملوا كلماتي حتى نهايتها.
هناك بعض البيانات التي أود طرحها تأييداً لوجهة نظري. إذ تساءل استطلاع للرأي بشأن تنظيم صناعة التكنولوجيا، تلك المسألة التي أثبتت أهميتها القصوى في عصرنا الحاضر، قائلا: «هل توافق أو لا توافق على أن الشركات التكنولوجية تملك الكثير من السلطات التي ينبغي أن تكون أكثر تنظيما؟»، وقال 16 في المائة تقريباً من أنصار الحزب الجمهوري إنهم «يوافقون بشدة»، بينما نسبة 13 في المائة من أنصار الحزب الديمقراطي اتخذوا نفس الموقف. وبالجمع بين أولئك «الموافقين بشدة» و«الموافقين بدرجة ما» فإننا نخرج برقم مماثل لكلا الحزبين، ألا وهو 46 في المائة. وهذا على العكس تماماً مما يستند إليه الاستقطاب الحزبي السياسي.
وبصفة أعم، يبدو أن هناك درجة من التقارب باتت تجمع رؤى الحزبين الكبيرين بشأن التفكير في أن أوجه العجز المالي هي قيد السيطرة، وأن المزيد من الإنفاق الحكومي من التوجهات الجيدة للغاية.
فماذا عن ملف السياسة الخارجية؟ بالنظر إلى المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. بعد انتخابات عام 2016 مباشرة، كان الرئيس دونالد ترمب يتخذ موقف الصقر المتشدد من الجانب الصيني. أما الآن، فقد أخذ موقفه في الاعتدال النذر اليسير، محاولاً التوصل إلى اتفاق مشترك. فهل اعتدل موقف ترمب بمرور الوقت؟ أجل، ولكن لا يتعلق الأمر بذلك فقط. فلقد انتهج المعسكر الديمقراطي سبيل التشدد إزاء ملف التجارة الخارجية، وفي أواخر عام 2018. حضَّ زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، وزملاؤه الديمقراطيون الرئيس ترمب على عدم التراجع عن موقفه الصلب المتخذ حيال الصين. ومن أبرز قضايا السياسة الخارجية الأخرى خلال العام الجاري، رغم أنها لم تحتل من عناوين الأخبار المساحة الكبيرة في مختلف وسائل الإعلام الأميركية، كانت المناوشات الهندية الباكستانية الأخيرة. وكانت الإدارة الأميركية نشطة للغاية في مفاوضات الكواليس الخلفية على هذا المسار، غير أن هذه الأنشطة لم تفضِ إلى أي نزاعات حزبية أميركية تذكر.
ولما وراء الولايات المتحدة، هناك بعض إشارات تفيد بتراجع حدة الاستقطاب. ربما تعتقد أن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي من أبرز أمثلة الاستقطاب السياسي المهيمن على بلد من البلدان المهمة. غير أن زعيمي الحزبين البريطانيين الكبيرين – تيريزا ماي وجيريمي كوربين – يبدو أنهما يفضلان البريكست تمام التفضيل، وإن كان من زوايا متباينة، ومعقدة، وربما متجمدة بعض الشيء. ومن الواضح أن الشعب البريطاني يعاني الآن مما يسمى بأعراض «إرهاق البريكست»، ويريد لتلك القضية ثقيلة الأعباء أن تنتهي بأي صورة كانت. وهذا من أسوأ ما تمخضت عنه ثنايا المفاوضات المضنية بشأن هذه القضية المرهقة، ولكن الأمر برمته لا يمكن اعتباره دليلا على الاستقطاب، بل قد يكون العكس تماماً في واقع الأمر. ولا يبدو أن أحداً يعرف على وجه اليقين ما سوف يحدث في ملف البريكست البريطاني. ولكن من الواضح أنها ليست مسألة نزاع بين طرف في مقابل طرف آخر على الإطلاق. بدلا من ذلك، هناك الكثير والكثير من الأجزاء المتحركة والمواقف المعقدة، بما في ذلك اتفاق السيدة ماي، وما يسمى «نورواي بلس»، والبريكست العسير، والمماطلة، والتسويف، وإعادة النظر والتقييم، والاستفتاء الثاني (وإنني لن أعدد الرؤى الكثيرة المنبثقة عن الموقف الآيرلندي الراهن). فلو كان البريكست مجرد معركة استقطاب تحزبية مزدوجة المسار وبسيطة، لكانت تمت تسويتها نهائياً منذ زمن بعيد، مع طرف يثبت قوته ويفرض سطوته على طرف آخر وانتهى الأمر.
وتأكيداً للقول، هناك بعض المجالات والقضايا التي شهدت ارتفاعاً في مستويات الاستقطاب: رأيك الشخصي في الرئيس دونالد ترمب، على سبيل المثال، أو رأيك في القاضي بريت كافانو بالمحكمة العليا الأميركية، أو بصفة أكثر عموماً الجدال الدائر حول التصويب السياسي والحروب الثقافية. ولكن هناك درس غاية في الأهمية ينبغي الالتفات إليه – وهو أن هناك الكثير من أوجه الاستقطاب التي يمكن الوقوف عليها في كل مجال. وبعض القضايا تصبح أكثر استقطاباً بمرور الوقت والبعض الآخر أقل استقطاباً. وربما هناك ما يربط بين هذين الاتجاهين.
فإن كان ذلك صحيحاً، فما هو التفسير المحتمل؟ تأخذ الآراء والتوجهات السياسية، من نواحٍ عدة، شكل نقاط التحالف المحورية. والحركات السياسية – سواء كانت تقدمية، أو محافظة، أو موافقة للنزعة الترمبية، أو تحررية – فإنها تلتزم بمواقف بعضها بعضاً إلى درجة ما، وذلك لأنها تجمعها روابط مشتركة على المستوى الفكري، والآيديولوجي، وغالبا العملاني أيضاً.
ولكن هناك اختبارات حاسمة، بدرجات أهمية متفاوتة، لمن يمكن اعتباره عضواً من إحدى المجموعات. وكلما ازداد بعض الترابط الفكري رسوخاً، صارت بعض المواقف الأخرى فضفاضة. ربما يعتبر الإجهاض وحركة (وأنا أيضاً) ذات أهمية بالنسبة لك، وربما تلتقي بإنسان يشاركك نفس المواقف بشأن هذه القضايا، ولكنه يختلف معك بشأن المعدل الأمثل لحماية الرسوم الجمركية. وبالتالي تجدان سوياً الأرضية المشتركة التي ينبني عليها تحالف ما بينكما.
قد تكون الإنترنت قد نجحت في دفعنا إلى الانتظام حول القضايا التي نؤمن بها بشدة. ولكن عملية إعادة الانتظام هذه في حد ذاتها قد أتاحت مجالاً واسعاً للخلاف والشقاق وإعادة التفكير الإبداعي (ليس للأفضل على الدوام) على طرفي البعد الآيديولوجي والسياسي.
وكلما ازداد الاستقطاب قبحاً بشأن بعض القضايا، اتسع المجال للتطور السياسي، وربما بلوغ حلقة الحلول الوسط بين مختلف الأحزاب في مجالات أخرى. إنه نوع من أنواع الانهيار الجزئي للاستقطاب - تماماً كما تتوقع للأمور أن تكون حينما يجري التغيير العميق على قدم وساق.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»