د. يوسف بن أحمد العثيمين
أمين عام منظمة التعاون الإسلامي.
TT

«حي على الفلاح» في برلمان نيوزيلندا!

نعم، هي مجزرة وجريمة وإرهاب. أجمع العالم على ذلك. ومثلما ضرب العالمَ الإسلامي فيروسُ الإرهاب وطاعونُ التطرف ونزعاتُ الغلو، فقد ضربت «الإسلاموفوبيا» العالم الغربي، ثقافةً وجغرافيا. وهما وجهان لعملة واحدة، وكلامها يقتات على الآخر... يغذيهما فكر متطرف ورؤية أحادية ضيقة للعالم، ويعيشان على إحباطات فردية وجماعية، يتاجر بها سياسي شعبوي، أو طويلب علم لا يفقه من الدين الإسلامي النقي شيئاً، أو خريج شوارع أو سجون أو مدمن مخدرات أو أسر مفككة، أو طلاب سياسة وحكم بلبوس ديني. هذا هو السياق العام لهذه النزعات والحركات المتطرفة عندنا وعندهم...
لكن الربح المستفاد من الدرس لا يقلّ خسارةً عن الوجع الإنساني الذي صاحب ما حدث في نيوزيلندا... ثبت أن الإرهاب ليس له دين ولا جنسية ولا عِرق، وأن الفكر المتطرف هو أسُّ الخراب، وثقب السفينة الذي قد يغرق العالم كله إذا لم يهبّ الجميع لإصلاحه، خصوصاً أن العالم اليوم أمام فرصة تاريخية لنبذ التطرف والعنف والكراهية التي أضرَّت الجميع...
نيوزيلندا، حكومةً ومواطناً، تعاملت مع المأساة بشكل لافت: إجراءات سريعة أمنيّة وتشريعية وإنسانية أذهلت الجميع رغم أن المنفذ كان قادماً من خارج محيطها… خرجت رئيسة الوزراء جاسيندا آردرن، أمام العالم بلباس إسلامي، وعزّت شعبها، ومنعت إظهار صور الإرهابي، ولا حتى ذكر اسمه، لأن الشهرة هي أكسجين الإرهابي، ورفعت الأذان في أنحاء البلاد، وتُلي القرآن في البرلمان؛ شجاعة سياسية وأخلاقية بامتياز.
بعثت وزير خارجيتها وينستون بيترز، ليلقي كلمة في الاجتماع الطارئ للجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي، وطلب لقائي هو بدلاً من أن أطلبه أنا، وعرضتُ عليه إرسال وفد من المنظمة للعزاء والمواساة للحكومة وأسر المسلمين المتضررين، قال: «نعم، ولكن أرسله ليوم خصصناه لهذا الغرض، 29 هذا الشهر»، وقد كان...
لم تكابر نيوزيلندا، ولم تتّهم الإسلام، بل تعاطفت، واتخذت عدداً من الإجراءات بما في ذلك القيد على الأسلحة وحملها، وأعطت صورة إيجابية للتعامل مع الأزمة ومع الحدث الذي أراد أن يهز التعايش في مجتمعها، ولكنه فشل.
إن ما حدث في نيوزيلندا هو أمر بشع للغاية، ولا يزال الجميع مصدوم منه ويخشى تكراره في أي بلد – لا قدر الله - ما دامت مسبباته باقية، وما دامت استمرت خطابات التحريض على الكراهية والعنف ضد المسلمين تجد لها أوعية نشرها، وسيكون لهذا الحدث الإرهابي من دون شك تبعات خطيرة على العالم. وعلى أنظمة الحكم القائمة في الدول الغربية ذاتها. وأياً كانت الدوافع لشن هذا العمل، فإن مرتكبه إرهابي عدو للإنسانية يستحقّ أشد أنواع العقاب، وعلى دول العالم والمنظمات الدولية أن تجتمع على هذا الفهم، وإذا لم تتم مواجهة خطاب الكراهية و«الإسلاموفوبيا» بشكل فوري وعاجل، فإن الفوضى ستطرق أبواب البلدان المستقرة، وترعب الآمنين في كل مكان، ولا استثناء لأحد وقتها... هذا الخطاب أصبح مهدِّداً للجميع ولحياتهم وثقافتهم وتعايشهم ويجب العمل على مواجهته فوراً.
إنها ليست قضية إسلامية فقط، ولا أحد يمكن له أن يبرر ما حصل، في أن تُقتل مجموعة من الناس الأبرياء بشكل غادر وبشع وهم يؤدون الصلاة في مكان عبادتهم. فعلاً إنها جريمة تفوق الوصف والتصور، تغذّت بالعنف والكراهية وذهب ضحيتها أبرياء، والأمل اليوم أن توحِّد هذه الدماء التي نُزفت، العالم، من أجل أن ينتفض ويعيد حساباته ويستبدل بخطابات الكراهية خطابات السلام.
المسألة الأخرى التي ينبغي التنبه إليها، هي خطوط الفضاء المفتوحة على مواقع التواصل الاجتماعي لأصحاب الفكر المعتوه والضال الذين يسعون دوماً لنشر سمومهم وتداولها عبر القارات من أجل هدم الأمن العالمي وبث الفوضى في كل مكان، فلا بد من وجود تشريعات حازمة تحكم الفضاء الإلكتروني الذي تحوّل ساحةً لتفريخ الأفكار المتطرفة، ولا بد من تقييد وصول هذه الأفكار المدمرة والعابرة للعقول والتي لا تعترف بالإنسانية ولا بالسلام وتجريم تداولها وتحمُّل كلٍّ مسؤوليته في انتشارها.
والمتتبع لخطابات التعصب والكره للآخر التي يروّج لها بعض السياسيين في بعض المجتمعات، يجد أن هذه الخطابات أصبحت تهديداً رئيسياً يعرِّض السلم والأمن العالميين للخطر. ومن دون شك ووسط خضمّ هذه الظروف التي نشهدها اليوم، فإن الإسلام والمسلمين في كثير من الدول يتعرضون للتشويه، ديناً وإنساناً، وكثير منهم يعانون بشكل متزايد من التمييز العنصري، فضلاً عن دعوات يمينية شعبوية تُنكر حقوق الإنسان المسلم الأساسية، ومنها الحق في الحياة والعيش في سلام، والتكامل مع كل مكونات الدول التي يقيم فيها، وممارسة حقه في أداء الشعائر وغيرها من الحقوق.
في الختام، فإن اليمين المتطرف، والشعبوية، والإسلاموفوبيا، وكراهية الأديان، والتمييز وفقاً للأعراق، وعداء الغرباء... كل ذلك يتطلب حزماً وعزماً دوليين، واتخاذ تشريعات أممية تجرّم هذه التصرفات مهما كان مصدرها، ومع هذه وتلك لا بد من إشاعة ثقافة التسامح والإخاء والمحبة واحترام الآخرين، بالضبط كما أرادها الدين الإسلامي الصافي الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل أربعة عشر قرناً ونيف.
- الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي