بانكاج ميشرا
TT

مذبحة نيوزيلندا ناقوس الخطر للبشرية

أشار المسلح الأسترالي المولد الذي قتل 50 شخصاً الأسبوع الماضي في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب باعتباره «رمز تجدد هوية، والهدف المشترك للبيض» ليربط بينه وبين أفكاره الدموية العنصرية القائمة على تفوق العرق الأبيض.
من جهته، ندد الرئيس ترمب بالمذبحة وقال إنه يجري توجيه اللوم إليه ظلماً عنها في إشارة إلى وجهة النظر الشائعة التي ترى أنه يميل باستمرار لتأجيج مخاوف وجودية في نفوس الكثير من البيض بمختلف أرجاء العالم. وقد تحدث ترمب بالفعل مثل مرتكب المذبحة عن المهاجرين باعتبارهم «غزاة» والإسلام باعتباره «مشكلة».
ومع هذا فإن المسارعة إلى توجيه اللوم لترمب عن تأجيج مشاعر الكراهية العنصرية تغفل القوة الكامنة في تاريخ تيار العنصرية البيضاء داخل أستراليا. داخل هذه المستعمرة التي سيطر عليها مستوطنون، والتي اتبعت سياسة فريدة من نوعها قصرت الهجرة إلى البلاد على «البيض فقط» وقيدت هجرة غير الأوروبيين إليها خلال الفترة من 1901 حتى أواخر الستينات، ظهرت ثقافة عالمية تقوم على فكرة تعرض البيض للحصار.
وقد أشار ترمب نفسه إلى ذلك في يناير (كانون الثاني) 2017، بعد مرور ثمانية أيام على توليه منصب الرئيس، عندما اعترف بشعوره بالإعجاب تجاه الإجراء الأسترالي الوحشي المتمثل في احتجاز اللاجئين في جزر نائية. وقال في حديث مع مالكولم تيرنبول، رئيس وزراء أستراليا: «هذه فكرة جيدة، وينبغي أن نفعل ذلك بعض الشيء هنا أيضاً». وأضاف: «أنتم أسوأ مني».
ونظراً لأنهم يعيشون إلى جوار آسيا، لطالما شعر الكثير من الأستراليين البيض بالخوف العنصري من أن يتغلب أبناء البشرة الداكنة عليهم أو يفوقوهم عدداً، خاصة أن العولمة والهجرات الجماعية تسارعت وتيرتها منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وحملت الحجة التي طرحها سفاح كرايستشيرش بأنه تحرك انطلاقاً من دوافع دفاع عن النفس عنصرية، وأصداء نص كتبه عنصريون بيض من مختلف أرجاء العالم عام 1893 بعنوان «الحياة الوطنية والشخصية: تنبؤات».
صاغ الوثيقة أكاديمي أسترالي تلقى تعليمه في بريطانيا ويدعى تشارلز هنري بيرسون، وتدَّعِي الوثيقة أن الرجال البيض يواجهون خطر أن «يزاحمهم ويضايقهم، بل وربما يزيحهم أبناء الأعراق السوداء والصفراء». وأشارت الوثيقة إلى الصين باعتبارها مصدر تهديد لهيمنة البيض. وحث بيرسون قراءه على الدفاع عن «الجزء الأخير من العالم الذي يمكن للأعراق الأسمى العيش فيه والتناسل بحرية، من أجل حضارة أرقى». ونالت أفكاره اهتمام سياسيين أستراليين أقروا سياسة «أستراليا البيضاء» في أعقاب نشر الوثيقة بفترة قصيرة، وكذلك اهتمام بارونات إعلاميين أمثال كيث مردوخ (والد روبرت) والذي حرك الصحف التي يملكها باتجاه قضية الوحدة العرقية. وقد تركت هذه الأفكار تأثيراً كبيراً على الرئيس الأميركي تيودور روزفلت الذي كتب إلى بيرسون «من بين جميع رجالنا هنا في واشنطن».
أيضاً، جرت قراءة كتابات بيرسون باهتمام في كندا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. وفي كتاب «المد المتصاعد من جانب الملونين ضد التفوق العالمي للبيض»، كتاب عنصري حقق أعلى مبيعات في عام 1920 واستوحى إلهامه من أفكار بيرسون، أبدى لوثروب ستودارد، وهو محامٍ ومؤرخ أميركي، إعجابه بـ«وحدة الصف العفوية والفورية التي تربط صفوف الأستراليين وأبناء جنوب أفريقيا وكاليفورنيا وكندا في (اتحاد مقدس) بمجرد أن تلوح في الأفق بوادر هجرة آسيوية». ونظراً لمعاينته قدراً متزايداً من أفكار التفوق العرقي الأبيض، توقع المفكر الأميركي من أصول أفريقية دبليو إي بي دو بوا في خوف عام 1910 أن تصبح «مشكلة القرن العشرين هي مشكلة خط اللون ـ العلاقة بين الأعراق صاحبة اللون الداكن بالأعراق صاحبة الألوان الفاتحة».
وعاودت هذه المشكلة الظهور اليوم مع ظهور الإرهاب وصعود الصين وتنامي الهجرات الجماعية على خلفية شكوك اقتصادية. إلا أن الخوف من الانقراض العرقي والرغبة في اتخاذ إجراءات متطرفة ضد أصحاب البشرة الداكنة سبقت ترمب بكثير، وجرى التعبير عنها علانية من جانب أفراد مبجلين بالمجتمعات البيضاء.
عام 2007، قال الروائي مارتن أميس في مقابلة أجراها معه صحافي من صحيفة «تايمز أوف لندن» المملوكة لروبرت مردوخ: «ثمة رغبة واضحة ـ أليست لديك؟ أن تقول: (على المجتمع المسلم أن يعاني حتى يرتب أوضاعه). أي نوع من المعاناة؟ عدم السماح لهم بالسفر. الترحيل ـ حتى آخر الطريق. تقييد الحريات. توقيف وتفتيش الأشخاص الذين يبدو أنهم من الشرق الأوسط أو باكستان». وبعد تعرضه لانتقادات ادعى أميس أنه لم يكن يدعو لمثل تلك الإجراءات، وإنما فقط «يصف رغبة ملحة».
وأعرب الكاتب الصحافي الكندي مارك ستاين عام 2006 في كتابه «أميركا ليست وحدها: نهاية العالم كما نعرفه»، عن أمله في أن يدرك الأوروبيون نهاية المطاف ما أدركه الصرب بالفعل في حربهم ضد مسلمي البوسنة: «إذا لم تستطع التفوق على عدوك في التناسل، عليك قتله». وقد أبدى ستاين ابتهاجه عام 2016 بفوز ترمب وشرح لاحقا أنه: «كلما زاد تنوعك، ازداد غباؤك». وقال: «لا نريد أن نصبح في عالم تنزلق فيه الحضارة الغربية من أعلى منحدر».
وليس من قبيل المصادفة أن يكون أقوى داعم لترمب بارون إعلامي ولد وترعرع في أستراليا. كما أن السيناتور الأسترالي الذي شدد العام الماضي على ضرورة «وضع حل نهائي» للهجرة يتضمن فرض حظر على المسلمين وآخرين من «العالم الثالث» استوحى الجرأة من ثقافة عالمية تؤمن بتفوق العرق الأبيض يدعمها إعلام مردوخ.
وأخيراً فإن إلقاء اللوم على ترمب عن المذابح العنصرية أمر سهل، لكن محاولات القضاء على خط اللون يجب أن تبدأ بالاعتراف بالطريقة التي رسم بها في أواخر القرن الـ19 في أستراليا وكيف عاود الظهور مع تداعيات مروعة داخل المجتمعات المختلطة عرقياً اليوم.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»