جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

حنين البعض إلى «عهد الفاشية»!

يبدو لي أن حياة بشرية من دون قلق، أمر غير قابل للتحقق، حتى اليوم. وعلى أمل أن يتمكن التقدم العلمي من إيجاد حل له مستقبلاً، أو العثور على الجين المسؤول عنه، لا مفرّ لنا من التعايش معه، ولا مهرب أمامنا سوى محاولة تفهّم أسبابه، لعل ذلك يساعد على تقليل ما يخلقه في نفوسنا من توتر وكآبة. وهذا تحديداً ما هداني عقلي إليه من حلول، بعد أن اجتاجني مؤخراً قلق أربكني، بما أثاره في نفسي من توتر وحزن، تعود أسبابه إلى تقارير إعلامية قرأتها، في عطلة نهاية الأسبوع، حول مديح أسبغه، مجاناً رئيس البرلمان الأوروبي، النائب الإيطالي عن حزب «فورسا إيطاليا» أنطونيو تاياني، على الزعيم الفاشي، الدوتشي موسوليني.
كان المديح، تحت قبة مجلس البرلمان الأوروبي، وعلى مرأى من نوابه المحترمين ومسمعهم، ممن انتخبوا للدفاع عن الديمقراطية، وحماية العالم وسكانه من شرور حركات سياسية، كالفاشية والنازية، وما والاها وشابهها. وعلى رغم اعتذارات تاياني مؤخراً، إلا أن هذه التلميحات أضرت بسمعته وخاصة ما قاله عن بنيتو وموسوليني إذ اعتبر تاياني في لقاء إذاعي مع «راديو 24» أن «موسوليني عمل أشياء حسنة لبلدنا وبنيتها التحتية». مبيناً «أنني لست فاشياً ولم أكن يوماً فاشياً إلا أن موسوليني أنشأ الطرقات والجسور وغيرها، لقد استعاد الكثير من أراضي بلدنا، عليك أن تكون موضوعياً».
لكن العالم يعرف أن موسوليني تسبب بحروب رهيبة في أوروبا ونفذ المجازر في ليبيا والقرن الأفريقي.
وقبل هذا صرّح تاياني بأن أجزاء من أوكرانيا، وأخرى من سلوفينيا أراض إيطالية!
رئيس البرلمان الأوروبي، في الحقيقة، صرح علناً، بما يدور في نفوس كثيرة، داخل الدوائر السياسية الحاكمة، في مدينة روما، حالياً، عاصمة الفاشية الإيطالية، التي قادها الدوتشي، منذ بداية العشرينات إلى قرابة منتصف الأربعينات من القرن الماضي، حتى انتهى به الوقت مسحولاً في شوارعها، تحت أقدام الرومانيين، ومعلقاً عارياً بحبل، في عمود، بالمقلوب.
ما أعنيه هو أن حزب الرابطة الشمالية، الذي يقود الائتلاف الحاكم، بقيادة زعيمه ماتيو سالفيني، والتزامه بتنفيذ برامج سياسية يمينية التوجه، وشعبوية مقيتة، لا يختلفون جميعاً عن السيد انطونيو تاياني، في مواقفهم من الفاشية، وإعجابهم بقائدها، الدوتشي، «من جعل القطارات في إيطاليا تتحرك بمواعيد دقيقة» حسب زعمهم.
السيد تاياني يرى أنه بالإمكان الفصل، واقعياً، وببساطة، بين ما حققه الدوتشي من إنجازات وغيرها في إيطاليا، وما ارتكبه من جرائم ضد معارضيه الإيطاليين، وترحيل اليهود في الداخل، وما ارتكبه من مجازر خارجها في ليبيا، والصومال، وإثيوبيا، وتحالفه مع هتلر الزعيم النازي في ألمانيا.
لا أعرف كيف يمكن للسيد تاياني أن يغض الطرف، متعمداً، عن حقيقة تاريخية يستحيل تجاهلها، وهي أن الدوتشي مسؤول شخصياً عن موت أكثر من 400 ألف إنسان. ولا أدري من أين للسيد رئيس البرلمان الأوروبي أن يأتي بمسطرة محايدة، من خارج التاريخ، ليرسم خطاً، حدودياً فاصلاً، بين ما حققه الدوتشي من إنجازات في إيطاليا، وما حققه من تشييد معسكرات اعتقال في مناطق العقيلة والبريقة - والمقرون بلييبا، في فترة الاحتلال الإيطالي، مخصصة لكي يُحشر داخلها سكان مدنيون من مختلف الأعمار، وليكونوا عرضة للإصابة بالأمراض وبالموت نتيجة الجوع والبرد والتعذيب! وتسببه بموت آلاف من الشباب الليبيين الذين جنّدهم عنّوة، ونقلتهم سفن أسطوله، ليضعهم في مقدمة قواته الغازية لاحتلال الحبشة.
ما قيمة لطرق مُدت، أو لجسور شُيدت، أو لقصور رُفعت على عمد، مقابل حياة بشر، من لحم ودم، وآمال وأحلام، وطموحات، قُبروا بالآلاف لتحقيق طموحات زائفة وأمجاد بائدة، مثل غيره من غلاة المستبدين الذين طغوا وتجبروا؟
وبالتأكيد، ووفقاً لما أفصح عنه وعرفناه، لسنا في حاجة الآن، لإضاعة مزيد من الوقت، لسؤال رئيس البرلمان الأوروبي السيد تاياني، عن رأيه، فيما حدث، مؤخراً، في نيوزيلندا.
لقد مارس الغازي جميع صور التنكيل وسفك الدماء، لكن الغريب أننا، في ليبيا الآن، البلد الذي أراد الدوتشي موسوليني تحويله بالقوة الاستعمارية إلى شاطئ رابع، يضاف إلى شواطئ إيطاليا الثلاثة، صرنا نسمع، في وضح النهار، أصوات جوقة نشاز، تتغنى، متحسرة، على أيام فاشيّ آخر، ران على قلوب الليبيين وصدورهم طيلة ما يزيد على أربعة عقود متفنناً في القمع والتنكيل والتعذيب والقتل.