داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

العراق: نهب منظم بلا رادع

في كل عام تطلق منظمات دولية متخصصة أجراس الإنذار لإخماد النيران المتّقدة في خزائن عشرات الدول يبدد مسؤولوها أرقاماً فلكية من الميزانيات العامة في مشاريع وهمية وعقود مجحفة وممرات سالكة إلى البنوك السويسرية والعقارات الأسطورية وبلا حسيب ولا رقيب. خذوا العراق بعد عام 2003 مثلاً صارخاً وبيّناً ومبيناً على ذروة الفساد الذي يمكن أن يكون، والنهب المنظم الذي لا يردعه رادع... إن كان هناك رادع. منذ ذلك العام الأسود حتى اليوم والعراق يتربع على قمة دول الفساد في العالم، بشهادة منظمات دولية لها مصداقيتها ومدركاتها ومؤشراتها وملاحظاتها مثل: منظمة الشفافية الدولية، وتقرير «الأيكونوميست» الدوري، ومنظمة الإنتربول، ومنظمة مكافحة الفساد الدولية، والمنظمة العربية لمكافحة الفساد. ولكن ما الذي تحقق على صعيد مكافحة هذا الفساد الذي يعاني منه الشعب العراقي الويل؟ وأنا أضرب المثل بالعراق، لأنه أصبح علامة رمزية دالّة على الفساد، بعد أن كان في عصور النهضة القديمة والحضارة البشرية الأولى مثالاً في سن القوانين الحمورابية لردع الفاسدين والمرتشين ولصوص المال العام. في العام الماضي وقف رئيس وزراء دولة أفريقية تعاني من الاضطرابات يسأل شعبه: هل تريدون أن يكون بلدكم مثل العراق؟!
حسناً فعل تقرير منظمة الشفافة الدولية الأخير في بداية العام الحالي بإعلانه أن جهود مكافحة الفساد في معظم الدول تتعثر. وهو ما دفع المديرة التنفيذية للمنظمة باتريشيا موريرا، إلى الاعتراف بأن «الفساد الذي ينخر كثيراً من الدول يؤدي في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة»، وهذه «الحلقة المفرغة» بدأت تلتهم الأنظمة الديمقراطية الشفافة بعد أن التهمت الأنظمة الشعبوية.
عربياً، يؤشر التقرير إلى أن الصومال هي الأكثر فساداً في العالم، حيث احتلت المركز الأخير (180) تليها سوريا (178) واليمن (176) وليبيا (170) والعراق (168) ولبنان (138).
لا يفاجأ المرء حين يطالع التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية عن مدركات الفساد في العالم (Corruption Perceptions Index)، بقدر ما يفاجأ بخروج الولايات المتحدة الأميركية من قائمة الدول العشرين الأقل فساداً. وهو أمر يعني أن الفساد في أي دولة لا تحكمه قواعد سياسية مؤطرة بمعياري الحرية كما في أميركا أو الديمقراطية كما في الهند، ولا تردعه مواد قانونية تصل إلى الإعدام كما في الصين وإيران مثلاً، ولا تخيفه تصريحات رسمية عن «الضرب بيد من حديد» وهيئات نزاهة محلية ليست منزهة مثل العراق والصومال واليمن وسوريا. لكن البلد الأفضل بين الدول «القلقة» في التعامل مع الجهود الدولية لمكافحة هذا الفساد هي تونس.
تركز التقارير الدورية لمنظمة الشفافية الدولية بحوثها ومسوحاتها على القطاع الحكومي، أو ما يسمى القطاع العام، وفي هذا الشأن تصلح التجربة العراقية مثالاً على تفشي الفساد، ليس حكومياً فقط، وإنما اجتماعياً وثقافياً ورقابياً. ويشمل ذلك رئاسات الجمهورية والوزراء والنواب والقضاء والجيش والشرطة والميليشيات (بعد أن تم اعتبارها جزءاً من المنظومة الأمنية في البلاد!). في الشهر الماضي صادق رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، على تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، وهو يضم رؤساء الهيئات والمؤسسات المعنية بمكافحة الفساد مثل: هيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، ومكاتب المفتشين العامين، والادعاء العام، وعدد من كبار المسؤولين في الدولة، فضلاً عن رقابة مجلس النواب المتهم أساساً بـ«شرعنة» الفساد عن طريق إصدار قوانين العفو وعدم معاقبة الفاسدين وإغفال استرداد الأموال المنهوبة.
المشهد العام للأوضاع الحالية في العراق قاتم لا يوحي بأي شفافية أو نزاهة، وهذه تركة متراكمة منذ تولى نوري المالكي رئاسة الوزراء في عام 2008، مروراً بحيدر العبادي ثم عادل عبد المهدي. ومجلس النواب نفسه، كما قلنا، متهم بالفساد الفادح وتشريع قوانين مطّاطة ومنح امتيازات غير دستورية للأعضاء ولفئات طائفية تقيم خارج العراق بمليارات الدولارات سنوياً. وكان المالكي هو الأسوأ بين رؤساء الوزارات الذين تعاقبوا على السلطة بعد تغيير النظام العراقي السابق. وتقدر جهات مستقلة أرقام الفساد خلال هذه السنوات بأكثر من 300 مليار دولار؛ ذهبت هدراً في تهريب النفط ومشاريع وهمية وعقود مزورة ومصالح شخصية ووظائف «فضائية» لا وجود لها في الواقع.
وبعض قصص هذا الفساد تصل إلى ذروة الخيال العلمي! ومنها عقد وقّعته حكومة المالكي في عام 2013 مع إحدى الشركات السويسرية لتجهيز وبناء وتشغيل مصفاة للنفط بطاقة إنتاجية تبلغ 150 ألف برميل يومياً في محافظة ميسان (جنوبي العراق) بقيمة ستة مليارات وخمسمائة مليون دولار. وتبين أن الشركة مسجلة في سويسرا في عام 2008 برأسمال مائة ألف فرنك فرنسي، ولها عنوان وهمي لا وجود له، ولم تقم سابقاً بأي نشاط في مجال النفط أو تصفيته وغير مؤهلة لتنفيذ مشروع مصفى نفط العمارة بهذه الكلفة الخيالية. والكارثة أنها قبضت مقدماً نصف قيمة العقد أو أكثر واختفت مثل سراب الصحراء. وطبعاً لا أحد من الجهات الرقابية التي أشرنا إليها سأل: أين خبراء وزارة النفط العراقية قبل توقيع العقد؟ وكيف رست المناقصة (السرية!) على شركة رأسمالها صغير وليست لها أي خبرة سابقة ولا عنوان ولا تأمين؟ ثم أين كانت السفارة العراقية في سويسرا حين تم توقيع العقد؟ وأكثر من ذلك فإن كل المتهمين مجهولو العنوان والإقامة! وهذا النصب والتحايل تكرر مراراً في قطاعات النفط والكهرباء والتجارة والداخلية والدفاع والبنك المركزي. إنه خيال علمي أكثر تعقيداً من جهود منظومة الأمن السيبراني الدولية.
وعلى ذمة نائبة عراقية سابقة، فإن ميزانيات العراق من عام 1920 إلى عام 2003 بلغت 220 مليار دولار بُنيت بها دولة. ومن عام 2003 إلى عام 2018 بلغت 862 مليار دولار هُدمت بها الدولة.
دول كثيرة فاسدة، لكن في العراق تجري الأمور بطريقة مختلفة.