نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

جدل بين بيل غيتس وجاسون هايكل

أثار مؤسس شركة مايكروسوفت وصاحب المبادرات الخيرية بيل غيتس جدلاً واسعاً الشهر الماضي بشأن معدلات الفقر العالمي في تغريدة تضمنت بيانات حصل عليها من موقع «آور وورلد داتا»، أظهرت أن أعداد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 1.90 دولار يوميا قد تراجعت بصورة كبيرة.
غير أن عالم الأنثروبولوجيا جاسون هايكل كتب في صحيفة الغارديان البريطانية ما يخالف هذه البيانات التي جاءت في صورة رسم بياني لينفي تأكيدات بيل غيتس في هذا الشأن، وهو ما أثار حفيظة اثنين من مؤسسي الموقع المذكور وجعلهما يدافعان عن نهجه في قياس معدلات الفقر، مما جعل هايكل يزيد من حدة انتقاداته مرة أخرى. وقد خضعت البيانات لتحليل دقيق من قبل ديلان ماثيو، الخبير بمؤسسة «فوكس ميديا» الإعلامية الأميركية.
من المعلوم أن بعض الأشخاص في المملكة المتحدة والولايات المتحدة يميلون إلى تصديق طرح تزايد معدلات الفقر العالمي. فتلك الدول الغنية تناضل للتغلب على مشكلاتها الاقتصادية وعلى الركود وثبات الأجور. ومما لا شك فيه أن هؤلاء الأشخاص بمعسكر هايكل أيضا يشعرون بالذنب تجاه تبعات زمن الاستعمار طيلة القرون الماضية. هذا طرح خاطئ، وهايكل أيضا على خطأ، لكن غيتس وهيسيل وروزر جميعهم على صواب لأن معدلات الفقر العالمي في تراجع بالفعل وبمعدلات متسارعة وغير مسبوقة.
إحدى نقاط جدال هايكل الرئيسية هي أن عتبة الفقر التي استخدمها موقع «آور وورلد داتا» كانت 1.90 دولار يومياً عام 2011 كانت عتبة منخفضة إلى حد كبير، ولذلك يقترح هايكل تحديد رقم 7.40 دولار في اليوم لقياس شدة الفقر. وفي حال استخدام تلك العتبة المرتفعة، سنرى أن إجمالي أعداد الفقراء في العالم قد ارتفع بثبات في حقبة الثمانينات والتسعينات، وأنه بدأ في التراجع سريعاً مع نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة (2000)، ولذلك يرى هايكل أن معدلات الفقر قد ارتفعت ولم تنخفض.
لكن ذلك الجدل معيب اقتصادياً وأخلاقياً. فرغم أهمية النظر إلى ارتفاع عتبة الفقر، فإن عتبة الفقر المنخفضة تعد أكثر أهمية. فالشخص الذي يعيش بمبلغ أقل من 1.90 دولار يومياً معرض لخطر الموت جوعاً، بالإضافة إلى أنه لا يملك إمكانية العلاج ولا يتمتع بمستوى نظافة ولا تعليم ملائم. ولذلك دعونا نتخيل أن دخل هذا الشخص ارتفع إلى 7.39 دولار يومياً، بالتأكيد سيمثل ذلك تغييراً لحياته. صحيح أنه لا يزال فقيراً، لكنه بعيد عن الخطر الوشيك وقادر على مناطحة الحياة اليومية فقط للبقاء على قيد الحياة.
لكن بحسب رؤية هايكل، فإن الحصول على هذا الدخل لا يعني تقليص معدلات الفقر ما دام أن 7.39 دولار يوميا لا يزال أقل من العتبة التي حددها، وهي 7.40 دولار. ويعكس ذلك فشلا تحليليا، لأنه لا يتقبل أحد مبادئ الاقتصاد، وهو تراجع معدلات الاستهلاك الهامشي، بمعنى أنه كلما قل مالُك، زادت أهمية أي زيادة ضئيلة تطرأ على دخلك.
بمعنى آخر، بنفي فائدة العتبة بالغة الانخفاض فإن هايكل يتجاهل أهم تحسن لمستوى المعيشة وهو نقل الناس بعيدا عن الفقر المدقع.
جدلية هايكل الثانية هي أن الرسم البياني يقيس الماضي بصورة غير دقيقة. فأرقام الفقر التي وردت بموقع «آور وورلد داتا» عن الفترة ما بين عامي 1820 – 1980 مستمدة من بحث أعده خبيرا الاقتصاد فرنسوا برغينون وكريستيان موريسون، ذلك على الرغم من أن بيانات عام 1981 وما بعدها جاءت من قاعدة بيانات موقع «بوفوكال نت» الخاصة بالبنك الدولي. ويشير هايكل إلى أن لصق بيانات إلى جوار بعضها البعض أمر لا يصلح لعقد المقارنات بين الحاضر والماضي البعيد. ويرى أن الدخل الحقيقي للناس في مجتمعات ما قبل الحقبة الصناعية كان أعلى من تقدير الخبراء، ما دام أنه كان بإمكانهم استغلال الأراضي العامة (المشاع) والمصادر الطبيعية.
قد يكون ذلك صحيحا أو لا يكون، بحسب ما يشير روزر وهاسيل، فمؤرخو الاقتصاد يحاولون حساب مصادر الإنتاج غير السوقية، لكن حتى لو كان هايكل على حق، فإن هذا المنطق يضر بجداله أكثر مما يساعده.
القصة الأساسية للرسم البياني الوارد بموقع «آور وورلد داتا» هي أن الرقم الإجمالي للفقراء قد ارتفع بوتيرة ثابتة منذ عام 1820 حتى عام 1980 قبل أن يبدأ في التراجع. لو أن هايكل على حق، فقد كان الاستعمار سببا في إفقار العالم بدرجة فاقت ما أوضحه الرسم الذي أورده الموقع. وحتى لو أن ذلك كان صحيحا، فإن تراجع الفقر منذ عام 1981 - الذي يستند إلى بيانات البنك الدولي التي لا يجادل هايكل بشأنها - كانت أكثر تأثيرا لأنها عكست تحولا كبيرا عن الحال في الماضي.
ربما أن أكبر زلات طرح هايكل تتمثل في تجاهله لجميع البيانات الأخرى التي تتوافق مع طرح تراجع معدلات الفقر. ما فعله بيل غيتس أنه لم ينشر هذا الرسم البياني فحسب بل نشر ستة رسوم بيانية: أظهر رسمان من الرسوم الأخرى ارتفاعا في معدلات محو الأمية، وأظهر الرسم الثالث تراجعا كبيرا في وفيات الأطفال الرضع، وهناك رسوم بيانية أخرى تظهر تراجع معدلات الجوع وسوء التغذية.
لو أن معدلات الفقر قد ارتفعت عالميا حقا، ما كان لهذا التحسن في الأوضاع المذكورة أن يحدث. الحقيقة هي أن السنوات الخمس والعشرين الماضية شهدت تحسناً كبيراً في مستوى معيشة الفقراء في الكثير من مناطق العالم، وتفوقت الصين في هذا المجال بكل تأكيد، فيما شهدت الهند وبنغلاديش وإندونيسيا وغيرها من الدول النامية تحسناً بوتيرة ثابتة في السنوات الأخيرة.
شيء واحد يبدو واضحاً، وهو أن إنهاء عهود الاستعمار قد ساعد الدول الفقيرة على بداية اللحاق بالركب. فبعد أن تحرروا من عبء إنتاج المحاصيل لأسيادهم المستعمرين، باتت الكثير من هذه الدول قادرة على مواصلة السير بنفسها وتجربة سياسات اقتصادية، إلى أن وجدوا مزيجاً منها يصلح للتطبيق. نهاية عهود الاستعمار قصة يجب أن يسعد بها هايكل.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»