نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

«غطرسة» العجز ستكون الإخفاق المقبل للاقتصاد

إن الأزمة المالية عام 2008، والركود الكبير الذي تبعها، أعطى العالم درساً لأن يكون أكثر تشككاً في نظريات الاقتصاد الكلي.
وفي السنوات التي سبقت تلك الأزمة، أظهر كثير من كبار خبراء الاقتصاد الكلي قدراً هائلاً من الرضا عن النفس، كان أشبه ما يكون بالعجرفة. ولعل أبرز ما يعبر عن ذلك ما ذكره روبرت لوكاس، عالم الاقتصاد الكلي الحائز جائزة نوبل، في مقال نُشر في عام 2003، عندما قال: «نجح الاقتصاد الكلي بمعناه الأصلي، فقد تمكن من حل مشكلته الرئيسية، المتمثلة في الوقاية من الركود... والحقيقة أن الحل جاء على مدى عدة عقود».
ويعتقد لوكاس، كما فعل كثيرون، أن البنك الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى قد تعلموا كيفية استخدام السياسة النقدية لصقل الاقتصاد وتخفيف الركود. وكان جزء من السبب وراء اعتقاده هذا هو الاعتماد المفرط على النظريات الاقتصادية الكلية الحديثة التي ساعد هو نفسه في ابتكارها. وحقيقة الأمر أن هذه النظريات فشلت تماماً في توقع حدوث الكساد العظيم.
لماذا فشلت النظريات في عام 2008؟ أحد الأسباب هو أن معظمهم أغفلوا جزءاً مهماً من الاقتصاد - الصناعة المالية. نماذج الاقتصاد الكلي هي، بالضرورة، صور مبسطة للغاية للاقتصاد، عليها أن تختار القطاعات والوكلاء والمؤسسات التي ستشملها، وأيها ستصرف النظر عنها. وفي هذه الحالة، اختاروا الخطأ. والسبب الآخر هو أن النماذج كانت مصممة للتعامل مع الظروف العادية والتقلبات الاقتصادية المتواضعة، في الوقت الذي كان فيه الركود الكبير خارج نطاق النظريات، ولذا لم تنجح هذه النماذج عندما كانوا في أمس الحاجة إليها.
وكان السبب الثالث وراء فشل النماذج الكلية في عام 2008 هو أنه حتى أجزاء الاقتصاد التي حاولوا وصفها ربما كانت نماذج غير صحيحة.
هذه النماذج مملوءة بالافتراضات غير الواقعية حول سلوك المستهلكين والعمال والشركات. وبما أن الابتعاد قليلاً عن الواقعية يمكن أن يجعل من نتائج نموذج الاقتصاد الكلي نوعاً من الحمق، فمن المحتمل أن يكون هذا الأمل ضرباً من الخيال في معظم الأوقات.
وبالتالي، فإن نماذج الاقتصاد الكلي لا تملك سوى القليل من الأمل في مضاهاة الدقة الكمية للنظريات في العلوم الطبيعية، أو حتى في الاقتصاد الجزئي، فهم لا يستطيعون التنبؤ بالاقتصاد. وإمكانية استخدامها لتقديم نوع من التوجيه الدقيق للسياسات الكمية أمر مشكوك فيه. وعوضاً عن ذلك، يميل صانعو السياسة إلى استخدامها كوسائل استدلال - قصص مفيدة عن الاقتصاد يمكنها أن تفيد في اطلاعنا حول أفكارهم تجاه القوى العاملة في العمل، ولكن ليس لذكر الإحصاءات الثابتة.
لكن استخدام النظريات، مثل القصص، يعرض مشكلة أخرى - كيفية معرفة القصة التي يجب استخدامها. ويوجد لدى صانعي السياسات عدد هائل من النماذج المختلفة المتراكمة على رفوف كتبهم، لا يحمل كثير منها خريطة الطريق التي يجب الانتباه إليها، وأيها التي يجب تجاهلها. كل ذلك يؤول إلى الحكم. إذا كان هذا الحكم خاطئاً، يمكن أن تكون هناك عواقب خطيرة غير مقصودة. على سبيل المثال، أبقت كثير من البنوك المركزية أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة للغاية منذ الأزمة المالية، على افتراض أن التضخم كان الخطر الوحيد المحتمل، لكن بعض الاقتصاديين أشاروا إلى أن المعدلات المنخفضة تشوه الاقتصاد بطرق أخرى، مثل تشجيع الاحتكارات أو خفض الإنتاجية.
لهذا السبب، دعا كثير من علماء الاقتصاد الكلي إلى إظهار المزيد من التواضع، بحيث يتم تجنب تصريحات براش الواثقة، مثل لوكاس، لصالح مقاربة انتقائية حذرة تُقرّ مدى قصور المعرفة. ويجب على صناع السياسة بشكل عام تجنب إجراء تغييرات ضخمة على طريقة إدارة الاقتصاد، باستثناء حالة الطوارئ، مثل الثلاثينات أو بعد عام 2008. ويبدو أن الأشخاص الذين يديرون بنك الاحتياطي الفيدرالي قد أدركوا بالتأكيد الحاجة إلى التواضع والحذر. ولذا، صار علماء الاقتصاد الكلي الأكاديميين أكثر حذراً بعض الشيء أيضاً. ولكن خارج التيار الرئيسي، هناك مفكرون وناشطون يقدمون أنواعاً جديدة من نظريات الاقتصاد الكلي بنوع من الثقة المطلقة، ويدعون إلى تغييرات جذرية في سياسة الاقتصاد الكلي الأميركية.
ومن بين هذه النظريات الرئيسية ما يسمى النظرية النقدية الحديثة، هذه النظرية التي نشرتها حفنة من المفكرين غير التقليديين، والتي تبناها بعض نشطاء اليسار في الآونة الأخيرة، تهدف إلى قلب الفهم المعياري لكيفية إنفاق المال، والإنفاق الحكومي، والضرائب.
ونظراً لأن معاهدة النظرية النقدية الحديثة تنص على عد تمويل الإنفاق الحكومي من خلال الضرائب، فإن الصفقة الخضراء الجديدة لا تتضمن أي إجراءات لتمويل الالتزامات المالية الكبيرة المفتوحة التي ستقوم بها. ووفقاً لاقتصاديي النظرية النقدية الحديثة، فإن الخطر الوحيد الممكن من الديون الحكومية الناتجة عن ذلك سيكون التضخم، الذي يمكن التحكم فيه عادة بأدوات غير زيادة الضرائب. وبعبارة أخرى، فإن العجز لا يهم أبداً. وهم واثقون جداً من قابلية تطبيق نظريتهم على مستوى العالم لأن أصحاب النظرية النقدية الحديثة غالباً ما ينظرون إلى منتقديهم بازدراء.
ويمكن لهذه الثقة المذهلة أن تجعل حتى تصريحات لوكاس السابقة للأزمة الاقتصادية تبدو متواضعة من خلال المقارنة. إن اقتصاديي النظرية النقدية الحديثة، والمؤمنين بها، يستطيعون تغيير طريقة تعامل الولايات المتحدة بالكامل مع سياسة الاقتصاد الكلي، انطلاقاً من قوة نظرية لم تشهد قدراً كافياً من التجربة والفحص والتحقيق المنطقي، كما كان الحال مع النظريات التي فشلت بشكل مذهل في عام 2008. وحتى بعد مشاهدة ما فعله الركود العظيم من جر الاقتصاد إلى منطقة مجهولة لا تستطيع النظريات السائدة وصفها، ويعتقد محبو النظرية النقدية الحديثة أن عقيدتهم ستستمر في الحفاظ على صحتها تماماً، بغض النظر عن التغيرات الكبيرة في السياسة التي يتخذونها.
هذه هي الغطرسة. تتسم الاقتصادات بالتعقيد الشديد، بحيث لا يوجد ما يسمى نظرية الاقتصاد الكلي المثالية. الكل يحاول التبسيط، ولديهم جميعاً حدود تتوقف بعدها النظريات. وبالنسبة إلى النظرية النقدية الحديثة، لا يوجد الآن سوى فهم محدود لما قد تكون عليه هذه التبسيطات والحدود. وإلى أن تتضح الصورة، ينبغي أن يتسم أصحاب النظرية النقدية الحديثة بقدر أكبر من التواضع - وحذر أكثر بكثير من أولئك الذين سيشرعون في مغامرات جديدة جريئة للسياسة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»