يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الجزائر: مأزق الديمقراطية الشكلانية

لم تحظ فكرةٌ بالتداول النقدي اليوم، كالديمقراطية، على أثر خيباتها في الآونة الأخيرة، بدءاً من أكثر تجلياتها نجاحاً مع الثورة الفرنسية التي تؤول الأوضاع فيها إلى ما سماه أفلاطون، أحد أكثر نقادها، «ديكتاتورية الحشود»، التي لم تعد تقنع بناخبيها في تلبية مطالبهم غير السياسية، وتحديداً الحد الأدنى من عيش الرفاه والاستقرار ووفرة الفرص الوظيفية بعيداً عن جذر الثقافة الديمقراطية، ونسغ فلسفتها، وهو حرية الاختيار التي تحولت في التجربة العربية التمثيل الأسوأ للديمقراطية الشكلانية إلى «غزوة الصناديق» على يد الإسلام السياسي الذي أنتج نسخة أخرى مشوهة من استبطان «مفهوم الديمقراطية»، وخلطه بشعار «الشورى» بديناميات شمولية لا تقل رداءة وتشويهاً عن مفاهيم أخرى متصلة بقيم الدين والتعددية والموقف من الآخر، وتلك قصة أخرى.
ما يحدث في جزائر المليون شهيد اليوم لا علاقة له بشخص الرئيس بوتفليقة، بحيث يصبح الحديث عن الكفاءة قدر أن الأمور في السياقات للدولة العربية الوطنية الحديثة يختلط فيها الرمز بمفهوم النظام بالدولة الحديثة، بحيث يصبح التداخل مربكاً وعصياً على فهم طبيعة الحشود المؤيدة للاستقرار على علّاته خوفاً من فقد كل شيء، ولا يمكن تناول هذا السياق المعقد بطريقة الفرز لمفهوم الديمقراطية الغربية، أو التسرّع بوصف هذا الموقف بـ«التطبيل» أو عسكرة الحالة السياسية؛ تلك العسكرة التي تمثل في الجزائر، ومثلت في اليمن وسوريا والسودان وغيرها مرادفاً لمفهوم الدولة، بل وحتى الأنظمة الملكية، وإنْ بأدوات وشعارات مختلفة، ومن هنا من الصعب جداً مسايرة السائد في تداول قضايا في غاية الحساسية والاكتفاء بنقد الحالة السياسية بناءً على ما نحسبه مسلمات ديمقراطية مقدسة لا تنتمي إلى السياق الواقعي الذي يخص كل بلد، حيث الجزائر تقبع على إشكاليات متداخلة؛ أهمها أكبر تاريخ نضال ضد الاستعمار لا يزال حاضراً ومستحضراً، وحرب أهلية دينية بسبب «غزوات الصناديق» والصراع على السلطة، وليس على التعددية السياسية التي تفترض لاعبين مستقلين، وصولاً إلى ميليشيات عسكرية تم التخلي عنها وهجرها من قبل النظام بعد الاستقرار تنتظر لحظة السقوط والإحلال أو الدخول في دوامة الفوضى.
أفرزت ما سميت بـ«ثورات الربيع العربي» الكثير من الأوهام، لكنها الآن أصبحت تنتج مسلّمات دون أن تتعرض للنقد أو الشك، ومن ذلك اعتبار أن الدول التي تحدث فيها الاحتجاجات الجماهيرية «ديكتاتورية الحشود» في مقابل صلف النظام المدفوع برمزية شخصية يترأس النظام حوله بعسكره ومؤسساته ومصالحه الاقتصادية، هذه الدول ليست ذات هدف ومصير موحد ومحدد، بمعنى أن ثمة ارتباطاً عضوياً فيما بينها، بحيث يتم الاستنتاج أو التنبؤ بأن فشل ثورة/ احتجاجات في بلد أو نجاحها سوف ينسحب على بقية التجارب.
ومن الأوهام التي يتم إشاعتها بشكل عاطفي مشبوب باحتجاجات الجماهير، الاعتقاد بأفضلية مخرجات أي مرحلة لتلك الاحتجاجات، أو ما يعرف بمخرجات «الثورة» على الوضع السابق في البلدان العربية، كما رأينا ونرى من يتحدث عن لحظة «الربيع العربي» - وهي لحظة لم تقرأ بشكل جيد بعد - بكل كوارثه وتناقضاته وفوضويته، مفضلاً أي استقرار سياسي أو اقتصادي لم يتأثر برياح «الربيع».
في الجزائر تحديداً يمكن تلمس هذا التمسك بالنظام في أقصى حدود الشكلانية المعاصرة إذا قرأنا التحديات الجسيمة التي تعرضت لها البلاد في تاريخها المعاصر، وصولاً إلى لحظة الذروة حين تم استهداف قصر الحكومة الخاضع لتعزيزات أمنية مشددة من قبل تنظيم «القاعدة» الذي يجاور في الحالة الجزائرية عشرات التنظيمات المحلية، إضافة إلى الميليشيات المتقاعدة ما بعد مرحلة الاستقرار، وهو ما أعطى رسالة مغايرة عن الحالة السياسية، مفادها أن «القاعدة» وأخواتها تنتظر الفرصة لكي تكون ضيفاً ثقيلاً على تلك البلاد.
من المهم جداً في قراءة المستقبل، بناءً على معطيات معينة، تجنب أي انحياز آيديولوجي، والانطلاق من المسلمات والافتراضات المتفق عليها من مختلف اتجاهات البحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي وفق الخطوط العريضة التي قذفتها الأعوام الماضية منذ لحظة البوعزيزي وحتى صعود تنظيم «داعش»، التي كانت أقرب إلى دورة مكتملة ابتدأت بالاحتجاجات الشعبية، وانتهت بتقويض استقرار عدد من الدول إلى أجل غير مسمى، ويعد باستحقاقات أخرى اقتصادية وثقافية واجتماعية لتزيد من عبء الملفات السياسية.
مستقبل المنطقة، رغم كل القراءات العاطفية، وجود تحديات سياسية كبرى وتكلس اجتماعي وتململ من تصاعد حالة الفقر ونقصان الفرص، إضافة إلى أزمات الهوية والبطالة وتحديات الأمن ما بعد «الربيع العربي»، وصعود منطق الأصولية والعنف، إضافة إلى الفراغ الكبير الذي خلفته تحولات هائلة على مستوى المرجعيات الدينية والثقافية وتفكك بنى وأنماط التلقي والتأثير، والدخول في عصر «فوضى المحتوى» بما تقذفه أقانيم ومنصات الإنترنت والوسائط الجديدة من أسئلة عادة لا تفيد الإجراءات الاحترازية أو الأمنية من علاجها على المدى الطويل في ظل غياب محتوى بديل.
الأزمات الاقتصادية ستضيف عمقاً جديداً لمشكلات المنطقة، طبعاً، بغض النظر عن ظلال انهيار أسعار النفط الذي يخضع لمقاربات متباينة جداً، سواء في الدوافع وعلاقتها بالأوضاع السياسية... أزمة تعاظم وصعود طبقة الشباب وتحولهم إلى قوة ضاغطة وكتلة اجتماعية هائلة بلا محطات استيعاب، ما يجعلهم في ظل «فوضى المحتوى» فرائس سهلة لتنظيمات متطرفة سياسية أو حتى على مستوى العمل المسلح، وهو ما يشكل كابوساً للمراقبين في ظل غياب استراتيجية شاملة لمعالجة ملف التحديات الأمنية ذات البعد الثقافي والفكري والسياسي، التي تحتاج إلى آليات عمل وأدوات وخطاب ومنتجات تختلف عن المواجهات الأمنية، فضلاً عن النقاش البارد كنسائم الشتاء عن الديمقراطية وحدودها وآلياتها، في حين أن دهاقنتها اليوم استبدلوا أسئلتها بأسئلة «المعنى والقيمة» وليس سؤال «الحقيقة».