تيلر كوين
TT

«الإنترنت» واحتمالات السعادة

ليس أغلب الانتقادات المعنية بالأنشطة الممارسة على «الإنترنت» ووسائل التواصل الاجتماعي صارمة أو مفيدة. وأعني أنها تفتقر لإيضاح السبب الحقيقي من كون قضاء كثير من الوقت على «الإنترنت» يسبب إشكاليات كبيرة، وإن كانت كذلك، فإنها لا تطرح بديلاً أو تقدم حلولاً للأمر. لذا، دعوني في السطور القليلة التالية أحاول طرح فرضيتي، وأحاول تقديم حل مؤقت ما استطعت.
شارك عالم النفس دانيال كانيمان (وهو الحائز أيضاً جائزة «نوبل» في علم الاقتصاد)، في تأليف كثير من الدراسات حول السعادة، حاول فيها التفريق بين الاستمتاع باللحظة الآنية، وبين الشعور بحس عام من الرضى والارتياح عن الحياة. وكما اتضح من كتاباته، فإن هذين المتغيرين كثيراً ما يفرق بينهما التباين بشكل واضح وكبير.
على سبيل المثال، قد يستمتع الرجل الغربي بليلة صاخبة رفقة أصدقائه، يناله فيها قدر من الثمالة، غير أن تذكّر هذه التجربة وما فيها قد لا يسعفه في الشعور بأنه يحيا حياة أفضل وأكثر رغداً من أقرانه، وربما يتمنى لو أنه قضى هذه الليلة في العمل الخيري، بدلاً من ضياعه على النحو الذي قضاه.
ومن جهة أخرى، فإن تربية الأطفال قد تكون أمراً مجزياً على المدى البعيد، ولكنها تجربة شاقة ومضنية وتزيد من معدلات التوتر اليومي، وربما تمر بلحظات ينعدم فيها الإحساس بالسعادة تماماً. (ألم تسمع المزحة التي تقول: «إن أفضل ما في تربية الأطفال هو الابتعاد عنهم تماماً لليلة كاملة؟»).
أجرى البشر مقايضات حياتية كثيرة ما بين هذه الأنواع المختلفة من المكافآت، عبر أجيال متعاقبة. وبطبيعة الحال، فإننا لا نصل إلى إدراك صحيح للأمور على الدوام.
فما الأمر الجديد في هذا الشأن؟ تمكنت الحياة على «الإنترنت» وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من تحويل التكاليف النسبية عبر مختلف المكافآت بشكل جذري. فبات من السهولة بمكان الآن السعي وراء السعادة الفورية، مقارنة بما كان متاحاً من خيارات في عام 1986 على سبيل المثال. من رسائل البريد الإلكتروني، إلى الفيديوهات السريعة، وآخر التغريدات الساخنة، أو أياً ما كانت هوايتك المفضلة على «الإنترنت»، كلها باتت على مسافة نقرة واحدة بالفأرة أو على لوحة المفاتيح، أو تمريرة خفيفة بأصبعك على شاشة من الشاشات. وتماماً كما توقع خبراء الاقتصاد، أصبح الناس يبحثون ويحصلون على ملذات آنية وخاطفة وسريعة، بعكس ما كان في الماضي.
تصور الوقت الذي أقضيه على «تويتر»؛ إذ يمكنني إلقاء النظرة الخاطفة والاستفادة من بعض المرح السريع في أي وقت أريد، وبلا تكلفة مادية تقريباً. ومع ذلك فلا أعتقد أنني سوف أنظر إلى الوراء يوماً، لأتذكر كل ذلك الوقت الذي قضيته متنقلاً بين مختلف التغريدات، من هنا أو هناك.
في المقابل، فإنني أتذكر أيام دراستي الثانوية بكل إعزاز، وكيف كنت وأصدقائي نركب الدراجات إلى منازلنا كي نتسكع بها في الطرقات، ونستمع إلى آخر ألبومات الأغاني المسجلة. لم أعد متأكداً من قدر المرح الذي استمتعنا به في تلك الأوقات، أو إن كان ذلك مهماً على أي حال، فلا تزال الذكريات المجيدة لم تبرح مكانها في مخيلتي مهما طالت الأيام. ويصح الأمر تماماً أيضاً بالنسبة للرحلات والسفريات الجميلة، حتى وإن كانت في تلك الأوقات مفعمة بالجهد أو التعب، أو ربما التوتر، أو كانت تنطوي ببساطة على كثير من العمل الشاق.
والاستنتاج المبدئي من وراء كل ذلك: تدفعنا الحياة على «الإنترنت» إلى الاستثمار الأقل في الذكريات الجيدة، والإحساس بالرضى والارتياح على المدى البعيد. ومن الواضح تماماً من واقع السلوكيات البشرية، ملاحظة أن «الإنترنت»، والآن تحديداً، تفعل مزيداً ثم مزيداً من تعزيز المتع والملذات الآنية قصيرة الأجل، التي تغفو عنها الذاكرة في سرعة عجيبة.
والنتيجة الأكثر سلبية تفيد بأن الحياة على «الإنترنت» صارت تحجب عنا همَّ وإدراك الحياة التي نعيشها. غير أنني لا أتركها تبتعد بي لهذا الحد. فبعد كل شيء، يتخذ البشر خيارات مماثلة بشأن موازنة السعادة على الأجلين الآني والبعيد، عندما يرزق أحدهم بطفل واحد بدلاً من أربعة أطفال، أو عندما يركبون دراجة للتنزه عوضاً عن استقلال الطائرة في رحلة فاخرة إلى باريس. وهي ليست بالقرارات الخاطئة بالنسبة إلى الجميع.
كما أود الإشارة أيضاً إلى أنه من الممكن استخدام شبكة الإنترنت في خلق ذكريات جميلة، أو تحسين الإحساس بالرضى والارتياح على المدى البعيد. وقد تساعدنا في العثور على شريك الحياة الرومانسي المناسب (بالإشارة إلى الأطفال الأربعة) أو التخطيط لقضاء عطلة لا تطوي ذكراها الأيام.
كثيراً ما أسمع النقاد يصفون السلوكيات على «الإنترنت» بأنها نوع من «الإدمان». ومع ذلك، فإن للإدمان مجموعة محددة تماماً من المعاني الطبية والإكلينيكية المعروفة، وهي لا تنسحب بكل سهولة ويسر على السياق التكنولوجي الراهن. فإنني لا ألحظ - على سبيل المثال - محاولة كثير من الناس التخلص من هواتفهم الذكية، بقدر محاولاتهم للتخلص من إدمان الكحوليات أو السجائر. وفي الأثناء ذاتها، فإن كثيراً من الناس ممن يرغبون في الإقلاع عن بعض أجزاء من «الإنترنت»، مثل المدونات أو التغريدات، فإنهم يستطيعون التخلص من ذلك من دون المرور بمرحلة «الانسحاب» شديدة الإيلام المعروفة في أوساط الإدمان.
وبعد ذلك، فمن الصعب القول بأن «الإنترنت» لم تحول الأمور إلى الأسوأ، بالنسبة للبشر الذين يسعون جاهدين للحصول على المكافآت الآنية السريعة. فإن «الإنترنت» تغذي هذا الميل وتعضده من دون أدنى شك. وربما يكون صحيحاً أيضاً أن الأشخاص الذين يملكون الذكريات الثرية الطويلة الأمد، يقدمون منافع خارجية إلى المجتمع بأسره، من خلال نقل الحكمة أو الإلهام أو ما شابه إلى الآخرين.
هناك كثير من الحديث حول تنظيم «الإنترنت» أو بسط مزيد من السيطرة عليها. فهل أجرؤ على طرح اقتراح بديل؟ تطويع السياسة العامة في تحويل التوازن، بسهولة العودة إلى الرضى عن الحياة، وتكوين الذكريات الطويلة الأجل المحببة. وتسهيل وترخيص تكاليف تنشئة وتربية الأطفال. واستخدام النظام التعليمي في دعم مزيد من الرحلات الدراسية إلى الخارج. والتفكير في تيسير السعي وراء الحصول على الرضى والارتياح عن الحياة على المدى الطويل.
هناك كثير من أوجه النقص البشرية تكمن وراء خياراتنا عبر «الإنترنت». ومع استمرار الاستجابة، فلماذا لا نشدد على الجانب الإيجابي وإفساح الطريق أمام حرية الاختيار؟

-بالاتفاق مع «بلومبرغ»