إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

مستقبل الجزائر... قبل المكابرة والإنكار

ما زالت ذاكرتي تسعفني، ولله الحمد، لدى التوقف عند محطات النضال الجزائري إبان النصف الثاني من عقد الخمسينات.
كنت طفلاً صغيراً في المرحلة المدرسية الابتدائية، أتابع مع أبي وجدي وأخوالي عبر الراديو في البيت آخر تطورات الجزائر، وأسير في صباح اليوم التالي بمظاهرات داخل ملعب المدرسة تأييداً للثورة. كنا نهتف ونتبرع... ونحلم.
أذكر إقدام مقاتلات حربية فرنسية، في خريف 1956، على اعتراض وخطف طائرة وفد جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كان على متنها المناضلون الاستقلاليون أحمد بن بلة ومحمد بوضياف والحسين آيت أحمد ومحمد خيضر، وسَوقهم إلى المعتقل.
وكبرنا... وكبر إعجابنا بمناضلي الثورة، الأحياء منهم والأموات، الطلقاء منهم والمسجونين، وبتضحيات «ثورة المليون»... حتى قبل أن نحفظ عن ظهر قلب كلمات مفدي زكريا: «قسماً بالنازلات الماحقات، والدماء الزاكيات الطاهرات...»، التي غدت النشيد الوطني للجزائر المستقلة بعدما لحنها وأجاد الفنان المصري الكبير الراحل محمد فوزي.
وانتصرت الثورة، وككل الثورات، أخطأت هنا وأصابت هناك... لكن انتصارها أعطى الحلم العربي ألقاً استثنائياً. ورغم الشوائب شكّلت محطة واعدة، و«شرعية» نضالية غير مسبوقة في منطقة عربية وقارة أفريقية تعيش السنوات الأخيرة من عهد الاستعمار الكلاسيكي القديم.
ومرّت السنوات، واختلف المناضلون وانقسموا. ظهرت التناقضات، كبيرها وصغيرها، مع خروج العدو المشترك. وانكشفت الشروخ التي لحمتها لفترة طويلة دماء الشهداء، ولم يلبث أن طاولت قمة الهرم عندما وقع الانقلاب الكبير عام 1965 فأطاح هواري بومدين «رجل الجبهة» بأحمد بن بلة «رجل السياسة»... وكان هذا المؤشر الأول لخروج الجزائر من حالة الثورة ومثالياتها إلى واقع السياسة.
كان ضمن فريق هواري بومدين شاب قصير القامة، تشع عيناه ذكاءً، اسمه عبد العزيز بوتفليقة، سمعت باسمه لأول مرة عندما عيّن عام 1962 في مطلع عهد بن بلة وزيراً للشباب والرياضة.
وخلال فترة قصيرة صار بوتفليقة، ابن المنطقة الحدودية الجزائرية - المغربية وأحد مناضلي «مجموعة وجدة»، وجه الدبلوماسية الجزائرية عربياً ودولياً. صار منذ تولى حقيبة وزارة الخارجية عام 1965 «الدينامو» الذي لا يهدأ... وهو يفرض الجزائر وسيطاً للتسويات وضميراً حياً للثورية والثوريين في كل مكان بعدما أخذت رومانسيتهم تتلاشى وتخبو، ولا سيما بعد تصفية «عسكر» بوليفيا، تلبية لرغبات واشنطن، إرنستو «تشي» غيفارا عام 1967.
وبعدما نجح هواري بومدين، «حاكم الجزائر القوي» لأكثر من 13 سنة، في «مدننة» العسكر... جاءت وفاته عام 1978 لتبدأ حقبة «عسكرة» الدولة، رغم الوجوه المدنية والكفاءات التكنوقراطية التي كانت تبرز بين الفينة في ظل العسكر.
منذ تولى الشاذلي بن جديد السلطة، في أعقاب وفاة بومدين، أخذت الشرعية التاريخية تنزاح تدريجياً. وتراكمت التحديات، وظهرت نزعات راديكالية دينية وعرقية وجهوية، وترافقت التطورات الاقتصادية خطوة خطوة مع ظاهرتي الفساد والانسداد السياسي... في ظل الهروب الدائم إلى الأمام للاحتماء بـ«شرعية ثورة»... آن الأوان كي تنضج وتبنى دولة. التغريبيون والانفصاليون والعلمانيون ودعاة «الدولة المدنية» وجدوا أصواتهم، كما هو مألوف في أي مجتمع طبيعي... وكذلك وجد «الإسلامويون» ذريعة مناهضتهم، وهذا أيضاً مفهوم في مجتمع طبيعي.
لكن المجتمع الجزائري، بعد ربع قرن من الاستقلال، ما كان طبيعياً تماماً.
كان كل شيء فيه ينحو نحو الراديكالية. تغريبيوه وانفصاليوه راديكاليون، وعلمانيوه و«مدنيوه» راديكاليون... وحتماً «إسلامويوه» راديكاليون. وأمام حالة «الردكلة» الاستقطابية الحادة أخفق النظام بعسكره وسياسييه في إيجاد شبكة أمان تنقذ المجتمع من هذه الحالة.
حتى وسط الاضطرابات الدامية والإرهاب المجنون كان هناك دائماً توق إلى المكابرة والإنكار... والعودة إلى «شرعية ثورية» انتهت صلاحيتها لأنها فشلت في تجديد نفسها، ناهيك من تجديد خطابها.
وتحاشياً لقسوة مجحفة وغير مبرّرة، يهمنّي القول هنا، إن «الحالة الجزائرية» ليست حالة استثنائية في العالم العربي.
إطلاقاً...
أصلاً ما حدث ويحدث في بلد كسوريا، على سبيل المثال لا الحصر، يحمل الكثير من مكوّنات محنة الجزائر التي أوصلت أحد أغنى بلدان العرب، بل وآسيا وأفريقيا، إلى المأزق السياسي الذي وصل إليه.
الإنكار العنيد للتناقضات الداخلية، والمكابرة في رفض الإصلاح والتعلم من الخطأ، وادعاء الأحجام والأدوار المبالغ فيها، والتدمير الممنهج لمؤسسات الحكم وتحويلها بدأب وثبات إلى أجهزة أمنية بحجة حماية مجتمع قاصر عاجز عن حماية نفسه... كلها آفات مشتركة بين سوريا والجزائر.
في سوريا، بسبب ظروف إقليمية موضوعية ضاغطة، تحوّلت احتجاجات شعبية سلمية إلى حرب أهلية... تعمّدها النظام لأنه كان يعرف أن الفتنة المذهبية وطلب الحماية الخارجية يشكلان ملاذه الأخير. لكن هذه الظروف غير متوافرة حالياً في الجزائر، ومن ثم، ما زالت هناك فرصة لتحاشي الانزلاق كلياً إلى «السيناريو» السوري.
في سوريا، ربح النظام وداعموه جولة، بفضل الدعم المباشر من قوة إقليمية اسمها إيران لديها مشروع هيمنة ثيوقراطي وجيو - سياسي، وقوة عالمية هي روسيا تريد الانتقام من هزيمتها في «الحرب الباردة» واستعادة ما تستطيع استعادته من مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي الراحل. والدعم غير المباشر من قوة إقليمية أخرى هي إسرائيل تعايشت معه وضمن لها حدودها منذ خريف 1973. واستطراداً، من إدارة أميركية سابقة كان هاجسها عقد صفقة مع إيران بأي ثمن كان.
هذه الظروف لا تنطبق على الجزائر حيث التهديد الداخلي أكبر من تفاصيل الحسابات الإقليمية، مع أن «طبشورة» «داعش»، التي أسهمت في رسم معالم التغيير الديموغرافي في العراق وسوريا خلال السنوات الماضية، وصلت إلى منطقة الساحل والصحراء. ثم إن بعض «داعش» انتقل إلى ليبيا، حيث نشط في فترة ما قبل الضربات المُوجعة التي تلقاها. ومعروفٌ أن للجزائر حدوداً طويلة مع ليبيا شرقاً... وحدوداً جنوبية أطول مع النيجر ومالي وموريتانيا.
الساعات والأيام المقبلة حاسمة لمستقبل الجزائر...
وباختصار شديد، المنطق يقول إنه آن الأوان لخطوات عملية تنهي عادة المكابرة والإنكار التي - إن استمرت - ستزجّ البلاد في المجهول.