حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

السعودية والقطار إلى المستقبل

التاريخ لا يرحم، هو أشبه بقطار غادر المحطة الأخيرة، على الإنسان أن ينهل منه بسرعة للمتابعة، لأن الحاضر والغد مكان العيش وليس الماضي، فإما يتم استنساخ ما سبق والنتيجة معروفة؛ تخلف وشلل وجوع... وإما الاستثمار في الحداثة وعدم التخلف عن القطار المنطلق إلى التاريخ الآتي. هذا ما يسري على الإنسان العاقل السويّ، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الحاكم المطالب دوماً بأن يقدم لبلده وشعبه ومحيطه ما هو رؤيوي يجمع حماس المغامرة المحسوبة إلى المعرفة والتخطيط؟
قبل فترة من الزمن قال الأمير محمد بن سلمان إن المنطقة العربية، التي تمزقها اليوم الحروب والاعتداءات وعرضة لأطماعٍ غير مسبوقة، ستكون أوروبا الجديدة، وهي مؤهلة لهذا الدور ولتبوؤ هذه المكانة. ستكون كذلك إذا ما تم ترشيد إمكاناتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة، ولا شك أن ولي العهد السعودي ينطلق من معطيات دقيقة كبيرة ومبهرة، لطالما ركز عليها في أحاديثه وحواراته وهي أنه «لدى السعودية كل المقومات الاقتصادية والتاريخية للتحول إلى وجهة عالمية». هنا بيت القصيد، والمعنى هو في كيفية استخدام هذه الإمكانات وكيفية تطويرها. في الداخل رؤية 20 - 30 ومشروع «نيوم» العملاق والذي يطال أيضاً الأردن ومصر... وما يمكن لمصر أن تناله من هذا المستقبل الواعد.
عين على المحيط وعين على العالم وكل العيون على المستقبل. نعم للدور المهم لمجموعة دول الاتحاد الخليجي والدور اللافت لدولة الإمارات على كل الصعد، هناك أولوية لهموم البلدان المشاطئة للبحر الأحمر وشعوبها، والرياض القبلة لاحتضان الإثيوبيين والإريتريين وإنهاء ما فرّقته بينهما الجغرافيا وأثقال التاريخ، والمتوفر كثير مع قيادات جديدة مقتنعة بأن النمو الحقيقي هو الممر الإجباري للاستقرار والدخول إلى العصر. ودولة في موقع السعودية التي كسرت التردد وفجّرت أكبر مفاجأة في تصدر عاصفة الحزم في وجه محترفي الخراب والإرهاب ولاستعادة اليمن من براثن حوثيي طهران، ذهبت بدايةً إلى تجديد إرساء علاقاتها مع الولايات المتحدة، القطب العالمي الأبرز والأفعل، كما أنه تم الحفاظ على أولوية العلاقات التي تجمعها مع بلدان الاتحاد الأوروبي، حيث لا غنى ولا بديل لبلد واعد يحتل مكانته بجدارة بين دول مجموعة العشرين عن أرقى أشكال التعاون مع بلدان ضفتي الأطلسي.
يبقى ما هو اليوم في مركز الصدارة، وقطار «طريق حرير» السعودية يحمل ولي العهد إلى باكستان والهند والصين، فالكثير من المستقبل الموعود إنما سيكون في القارة الآسيوية، هكذا هي الأرقام وهكذا هي المعطيات، ولهذا بالضبط بدأ التركيز الأميركي على شرق آسيا ومثله الأوروبي، ويكفي للدلالة على هذا الأمر أن هذه البلدان، رغم أن سكانها أكثر من مليارين و800 مليون إنسان، تسجل النمو الأبرز؛ النمو السنوي في الهند عند 5,7%، وهو الأعلى، وفي الصين استقر النمو عند نسبة 5,6%، وأخيراً 5% هو الرقم المسجل في باكستان.
دوماً كانت باكستان بلداً محورياً بالنسبة إلى السعودية في السياسة والتعاون العسكري كما في النشاط الاقتصادي، ودوماً بلغ التعاون بين البلدين مرتبة متقدمة وشكّلت العمالة الباكستانية أبرز عمالة في السعودية، وخلافاً لكل ما تردد إثر وصول عمران خان كقيادة جديدة لباكستان اخترقت المشهد السياسي، من خارج الانقسام السياسي التقليدي، عن اعتماد بعض السياسات المغايرة، يبدو أن المنحى أكثر إيجابية. لهذا كانت كل من إسلام آباد والرياض محور استهداف طهران بإلقاء المسؤولية عليهما إثر استهداف قافلة للحرس الثوري في جنوب شرقي إيران وسقوط العديد من القتلى في عديدها، فيما وحده النظام الإيراني كنظام تفرقة واضطهاد هو من يتحمل المسؤولية عن مثل هذه الاضطرابات الداخلية التي لم يعد بمقدوره طمسها، أما السعودية وباكستان فهما بالطريق لتعميق تعاونهما في كثير من الميادين وبالأخص النفط ومنشآت التكرير والمنشآت المرفئية على أساس من الندّية، وهو الأمر الذي توِّج بتوقيع اتفاقات استثمارية بحدود الـ20 مليار دولار سيكون لها التأثير العميق على النمو في البلدين لأن ما تم وضعه في التنفيذ «مبلغ كبير للمرحلة الأولى وسينمو بأرقام متزايدة لمستقبل دولتينا» على حدِّ قول ولي العهد السعودي.
محطة الهند ستكون مميزة في البلد الذي يستورد سنوياً 20% من احتياجاته النفطية من السعودية، أي مليون برميل يومياً، والمجالات المتنوعة مفتوحة، لأن الهند باتت قوة علمية وقاعدة صناعية وإحدى كبرى أسواق الاستهلاك في العالم، وتمتلك عمالة منوعة ومميزة، وهي كاقتصاد كبير تتجه في السنوات القليلة المقبلة إلى احتلال المركز الثالث عالمياً متقدمةً تباعاً على ألمانيا واليابان. لذا لترسيخ التعاون مع الهند أهمية خاصة لما يمكن أن يكون قفزة في البرنامج الوطني السعودي للتنمية الاقتصادية لما هو بعد النفط والمقصود طبعاً القطاعات الاقتصادية المبنية على المعرفة.
كان يُقال: «اطلب العلم ولو في الصين»، والصين اليوم لم تعد بعيدة بل هي موجودة في كل مكان، إنتاجاً ومعرفةً وأسعاراً منافسة في كل شيء، ومع «طريق الحرير» الذي أطلقته ستقترب أكثر من الجميع. واللافت أنه بقدر الاهتمام السعودي بما تعنيه محطة الصين من تأثير وفتح أبواب إضافية، هناك في بكين اهتمام شبيه، فالسعودية بلد مستقر راسخ في الأمن والتطور الاقتصادي لذا هو بلد جاذب للاستثمار الكبير.
إنها جولة استراتيجية في السياسة، ترتدي أهمية استثنائية في نهج متواصل، ستكون لها النتائج المؤثرة في الحزم والحسم ضد التطرف الخطر الذي يمثله نظام الملالي في طهران، وهو الذي يجاهر بأطماع غير مسبوقة للهيمنة على بلدان المنطقة، كي يذهب أبكر مما يعتقد كثيرون إلى مزيد من العزلة والاختناق... وستكون لها أيضاً نتائج لافتة في تأكيد المؤكد من أنه لا مكانة في المنطقة لعثمانية جديدة، ولو استندت إلى تحالف الأضداد في ديكتاتوريات بائدة، وتحلم بفرض نفوذها السياسي على المنطقة ولا تتورع عن الكبائر، فيما أن تغريدة واحدة من الرئيس الأميركي ترمب كانت كافية لهزِّ مكانتها في العالم، وصورتها في الداخل، مع الانهيارات في اقتصادها وعملتها، وهي التي ملأت الدنيا ضجيجاً بتحقيق نجاحات اقتصادية، لم تحجب حقيقة تمدد «مدن الصفيح» حول أبرز مدنها.