زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

.. و«السلام».. لا يلغي «حق الدفاع» عن النفس والأوطان

للكاتب وظائف شتى، من بينها (لا سيما في عصور اضطراب المفاهيم كعصرنا هذا) بل في مقدمها «وظيفة التوازن» في التفكير والطرح، بمعنى ضبط المعنى بدقة - بعد استحضاره وإنضاجه - والاحتراز الذي يدفع الإيهام الذي قد يعلق بأذهان هؤلاء أو أولئك من الناس.
في مقال الأسبوع الماضي بسطنا القول في أن الأصل في منهج الإسلام هو «السلام» في ما يتعلق بالعلاقة بين الأمم.. وقد يقع في ذهن البعض أن في هذا التأصيل ما يلغي مبدأ الجهاد أو الدفاع الذي تضافرت نصوص كثيرة على التوكيد عليه.
وليس الأمر كذلك. فإذا كان الأصل هو السلام، فإن ثمة «استثناء» يتيح أو يوجب «الدفاع عن النفس».
فأن تكون مسالما محبا للسلام، داعية إليه، فليس معنى ذلك قبول الضيم، ولا الاستسلام للعدوان، بل إن الاستسلام المهين للعدوان يعين أعداء السلام على اجتثاثه من الأرض بمزيد من الضراوة والتوحش.
وما دمنا في مجال «تصحيح المفاهيم» فإنه يلزمنا أن نكتب سطورا عن «الجهاد» أو «الدفاع عن النفس».. فمن الناس من فهم الجهاد فهما خاطئا جدا يقترب من العدوان على الآخر، أو يقترب من جريمة «الإكراه في الدين»، ووفق هذا الفهم طفق هذا الصنف من الناس يتأول الجهاد تأولا فاسدا يفرغه من مضمونه، ويصور المسلمين - من ثم - أمة تدمن الحرب والضرب والعدوان.
ومن الناس من فهم الجهاد بأنه «حرب مفتوحة» ضد الآخر، فطفق يمارس الجهاد بغير شروطه الشرعية المعروفة المعتبرة.
ومن الناس من أسرف في القول بـ«النسخ» في القرآن حتى نسخ عشرات الآيات الداعية للسلم والصفح والإغضاء والمرحمة والتسامح والبر والقسط بما يسمى «آية السيف»!!
ويتعين التقرير - بادئ ذي بدء - أن مبدأ النسخ مقرر، غير منفي ولا منكور. ولقد تبدت بإزاء النسخ - في تاريخ المسلمين وتراثهم - اتجاهات ثلاثة: اتجاه ينفي النسخ بإطلاق، وهو اتجاه قليل الوزن، ضعيف الحجة. ففي القرآن آيات صريحة تفيد النسخ. الاتجاه الثاني هو الذي يقول بالنسخ في غير إسراف ولا اعتساف. أما الاتجاه الثالث فهو الذي أسرف في النسخ إسرافا عطل به عشرات الآيات القرآنية، وألغى قيمتها ومفعولها.
وعن الاتجاه الأخير نتحدث:
قال قائلهم - مثلا - إن آية «لا إكراه في الدين» منسوخة بآية السيف، وهو قول مبني على فرضية مسبقة وهي افتعال التناقض بين آية نفي الإكراه في الدين وبين آيات القتال.. والحق أنه ليس بين الآيتين تعارض ولا تناقض. فآية نفي الإكراه في الدين تقرر حقيقة غير قابلة للنسخ وهي أن الإيمان بالله عز وجل (وهو أصل الدين ومنبعه) يقوم على الاقتناع الحر، والاختيار الحر - بلا ريب. وهذه الحقيقة إذ تنتظم إعلاء قيمة إرادة الإنسان وحريته ومسؤوليته: تنتظم – كذلك - حكمة عقلية وعملية جليلة وجميلة، ذلك أن الإكراه لا يمكن أن يثمر إيمانا قائما على الرضا والحب. فإذا أقر الإسلام الإكراه في الدين، فإنه - بذلك - يشجع على النفاق على أوسع نطاق. فالمكره يتظاهر - شكليا - بالموافقة والمسايرة، لكنه - في حقيقة أمره - يلعن الإيمان، ويسبه بقلبه وضميره!! ولذا شدد الإسلام النكير على النفاق والمنافقين.. يُضم إلى ذلك أن كل عقد يتم بالإكراه هو عقد باطل في شريعة الإسلام. ولذا - مثلا - أبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد زواج فتاة أكرهها أبوها على زواج من لا تريد.
ذاك - في إيجاز - مفهوم آية «لا إكراه في الدين».. أما آيات إيجاب قتال المعتدين من مشركين وغيرهم فهي تقرر حق المسلمين في رد العدوان وردعه والدفاع عن الدين والنفس والحمى.. مثلا آية: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».. هذه الآية لا تدل - قط - لا بالصراحة، ولا بالإيماء، لا من قريب، ولا من بعيد، على إدخال الإيمان في نفوس الناس بالغصب: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»؟!.. وبالمناسبة، فإن قوما زعموا - أيضا - أن هذه الآية الأخيرة قد نسخت بآية السيف!! أما الراسخون في العلم فلا يخبطون هذا الخبط في كتاب الله تعالى.. ومن هؤلاء ابن كثير الذي قال في تفسير آية «لا إكراه في الدين»: «أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه. بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة. ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا».
ومن التوسعة في المفهوم الصحيح للجهاد أو الدفاع الذي شرعه الإسلام أن نفهم أن «الدفاع» حق ثابت من حقوق الإنسان: أي إنسان.. وكل إنسان.
وللمسلمين - بحسبانهم ناسا - الحق في ممارسة الدفاع عن أنفسهم، كما أن للأمم الأخرى ذات الحق.
بل نقول: إن حق الدفاع من «السنن الكونية» التي أقام الله عليها المجتمعات البشرية.
ومعنا في ذلك برهانان مبينان:
1) البرهان الأول: في قصة الصراع الدامي بين طالوت وجالوت نبصر «سنة التدافع» بين الطرفين: «فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين».
2) البرهان الثاني.. في أول بيان بالإذن بالقتال - في سورة الحج - نقرأ: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز».
في هذين السياقين العسكريين أو القتاليين نقرأ ذات التعبير: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض».
ومن مفاهيم (سنة التدافع) هذه:
أ - أن «دفع» المعتدي يحمي الأرض من الفساد، كما يحمي المعابد - بمختلف صورها - من التخريب والهدم.
ب - أن حياة الناس لن تأمن بدون «قوة دافعة» تدفع عنهم عدوان المعتدين وطغيانهم وبغيهم.
ج - أن مشيئة الله تعالى قضت بإجراء سنة التدافع لكي تستقيم الحياة وتطرد، وما شاءه الله لا يبطله إنسان.
والبشر - بمقتضى فطرتهم - يدركون أن ردع الظالم المعتدي شرط في البقاء على هذه الأرض. قال زهير:
«ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم.. ومن لا يظلم الناس يظلم»..
ونلوم زهيرا على عبارته الأخيرة. فالظلم ممنوع - كفعل وكرد فعل - ونحسب أنه لا تثريب علينا إذا عدلنا عبارته الأخيرة لتصبح: «ومن لا يردع الظلم يظلم»: دون أن ينكسر البيت.
ولنتذكر أن هذه المطارحات الفكرية بدأت بمقالات عن ضرورة التواطؤ العالمي على «خفض التوتر الديني»، ولكي يضع الناس هذه القضية في موضعها الصحيح من حيث أخذها بالجد الواجب المطلوب. من أجل ذلك نسوق وقائع تبرهن على دور «التوتر الديني» في تسميم «العلاقات الدولية» وشحنها بألغام الصراعات والحروب الدامية.
إن «القدس» قضية دينية.. وحين نشب التوتر الديني حولها ثم تصاعد - بدون كبح ولا علاج - تولد عن التوتر المتصاعد حرب دامية طويلة أخذت عنوان «الحروب الصليبية».. لقد سممت هذه الحروب العلاقات الدولية بين المسلمين وأوروبا، بل لا تزال تلقي بظلالها الرديئة على هذه العلاقات حتى اليوم، في هذه الصورة أو تلك.. ولا تزال القدس «لغما» دينيا يمكن أن يفجر حروبا جديدة بسبب أفاعيل غلاة اليهود والصهاينة فيها.